words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(30) شبهة في إنكار (جهاد الطلب)




يستدل البعض لإنكار جهاد الطلب بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، وأنه مادام الكافر مسالِمًا فلا جهاد، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو" متفق عليه.
وهذا هو حال الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، الذين يستدلون بأحد أدلة المسألة ويتركون بقية الأدلة...والجواب على هذه الشبهة من أوجه:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين هم خير هذه الأمة رضي الله عنهم لم يحملوا هذه النصوص على الوجه الذي فهمه هؤلاء، بأنها تعني ترك جهاد الطلب، فقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم العرب ثم خرج لقتال الروم في تبوك، وقد غزا صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة - متفق عليه عن زيد بن أرقم -، وقاتل بنفسه في ثمان منهن - رواه مسلم عن بريدة -، أما البعوث والسرايا التي أرسلها ولم يخرج فيها فبلغت ستا وثلاثين في رواية ابن إسحاق وزاد غيره عن ذلك - "فتح الباري" 7/ 279 - 281، و صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 195 -، ثم غزا الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم الفرس والروم والترك والقبط والبربر وغيرهم
مما هو معلوم، فهذا الذي استدل بهذه النصوص لإبطال جهاد الطلب نقول له: هذا الذي فهمته شيء فهمه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته أم لا؟ فإن قال لم يفهموه. فنقول له فأنت فهمت ما لم يفهموه، وحكمت على نفسك بالضلالة وأن ما فهمته ليس من ديننا، لأن الدين اكتمل في حياته صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وفهمك هذا مردود ساقط "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ"، وقد خَرَجْتَ بهذا الفهم الفاسد عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وعن سبيل صحابته، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
أما إن قال بل فهموا ما فهمه هو، فنقول له: قد كانت سيرتهم بخلاف هذا الفهم، فإما أنه الحق وهم خالفوه، ولا يقول بهذا إلا زنديق، وإما أنه الباطل والضلالة فليس هو فهمهم ولا عملهم.
الثاني: أما قول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، لا يمنع المسلمين من الجهاد إلا العجز، ويجب الإعداد حينئذ، وذلك لقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ}، فما دامت بالمسلمين قوة وكانوا أعلى من عدوهم فلا سِلْم ولا هدنة ولا صلح، بل القتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وذلك لأن آخر ما نزل في الجهاد هو قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فهذه الآية وآية الجزية بنفس الصورة أمر بالقتال العام، وهو من أواخر ما أنزل من القرآن، فلا ناسخ له، روى البخاري (4654) عن البراء رضي الله عنه، قال: "آخر سورة نزلت براءة".
وهكذا فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده في قتال المشركين وأهل الكتاب...ولا يمنع من هذا إلا العجز ولذلك ترى الكافرين يجتهدون في منع المسلمين من حيازة السلام، كما قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}.
وقد كررت في هذه الرسالة أنه إذا منع من الجهاد عجزٌ وَجَب الاستعداد، للآية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ}، وهكذا قال ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى 28/ 259).
مما سبق تعلم أن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكافرين هو القتال وأن الإستثناء منه هو السلم في صورة هدنة أو صلح وأنه لا يلجأ إلى هذا الاستثناء إلا لضرورة من عجز ونحوه، وذلك لقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ}.
أما الآية المحتج بها فلا حجة فيها إذ إنها محمولة على جواز المسالمة بشرط حاجة المسلمين لذلك وهذا الشرط تبينه الآية الأولى{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ}، فآية الأنفال تختص بحال وهو كون المسالمة في مصلحة المسلمين ويحتاجون إليها، أما آية سورة محمد صلى الله عليه وسلم فهي تختص بحال آخر وهو كون المسالمة ليست في مصلحة المسلمين وذلك عندما تكون بهم قوة يقهرون بها عدوهم فإنه لا توجد المسالمة حينئذ لهذه الآية ولأن في هذا عدول عن الأصل المطلوب وهو إظهار دين الإسلام على ما عداه، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، هذا هو الأصل المقصود: إظهار الإسلام بقتال المشركين فإما أن يسلموا ويعودوا إلى العبودية لله رب العالمين، وإما أن يظلوا على كفرهم مؤدين الجزية تحت حكم الإسلام يجري عليهم الصغار اللازم لكل من تمرد على العبودية للواحد القهار، قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ}.
قال ابن كثير في تفسير آية الأنفال {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، قال:
"قال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخرساني وعكرمة والحسن وقتادة إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية، وفيه نظر أيضا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم".
وقال ابن حجر في نفس الآية {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} قال:
"هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين - إلى قوله - ومعنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظى للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرا على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا".
فالآية المحتج بها دالة على مشروعية المسالمة عند الحاجة لا وجوب المسالمة.
قلت: ولا ينبغي أن يفهم مما سبق أن الإسلام لا يدعو إلى السلام، بل يدعو إليه ولكن من منظوره الخاص، بل هو يريد هذا بجميع الخلق، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وقال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، وقال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}، هذا هو السلام في مفهوم الإسلام: الرحمة بالخلق وإخراجهم من الظلمات إلى النور والحض على مكارم الأخلاق وتحريرهم من العبودية للبشر {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، والنهي عن الفساد في الأرض، فما لم يتحقق هذا وجب الجهاد {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
الثالث: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو" فقد رواه البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس خطيبا فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم".
قلت: واضح من نص الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في إحدى غزواته لقوله: (في بعض أيامه التي لقي فيها) أي: العدو كما رواه مسلم، وقوله: (فإذا لقيتموهم فاصبروا) وقوله: (اهزمهم وانصرنا عليهم)، فكيف يستدل بهذا الحديث على ترك الجهاد وهو إنما قاله صلى الله عليه وسلم في أثناء الغزو؟ ثم إن الحديث مشتمل على الحض على القتال والالتحام بالعدو، وذلك في قوله: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ومعلوم أن المقاتل لا يكون تحت ظلال السيوف إلا عند الالتحام بعدوه حيث يعلو كل منهما صاحبه بسيفه، فكونه صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث أثناء توجهه للقتال، وكونه حض على القتال في نفس الحديث، يدل على أن النهي عن تمني العدو ليس على إطلاقه وإنما هو من جهة خاصة، وهي التحذير من العُجْب والوثوق بالقوة، وما أشار إليه ابن حجر في شرحه لهذا الحديث قال في "فتح الباري" 6/ 156:
"إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه صورة الإعجاب والاتكال على النفوس والوثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم.
وقيل: يحمل النهي على ما إذا وقع الشك في المصلحة أو حصول الضرر، وإلا فالقتال فضيلة وطاعة".
وقال النووي مثله في "شرح صحيح مسلم" 12/ 45 - 46.
قلت: ومما يدل على أن النهي عن تمني لقاء العدو ليس على إطلاقه، تمني أنس بن النضر رضي الله عنه لقاء العدو بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتَلْتَ المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين لَيَرَيَن الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد! قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صَنَعَ! قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتِلَ ومَثَّلَ به المشركون، فما عَرَفه أحد إلا أخته بِبَنَانه. قال أنس: كنا نرى - أو نظن - أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}".
قلت: فهذا الصحابي الجليل تمنى لقاء العدو، وصدق الله في ذلك، وبهذا ترى أن النهي عن تمني لقاء العدو إنما هو من جهة العُجْب والفخر وهما مذمومان، وبهذا ترى فساد هذه الشبهة التي يتعلل بها بعض الزائغين لإنكار جهاد الطلب الذي جعله الله تعالى وسيلة لإظهار الدين، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وقال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، وقال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، قال ابن القيم رحمه الله:
"والمقصود من الجهاد إنما أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله" وقال: "فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم، فهذا من دين الله، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عِزِّهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة". "أحكام أهل الذمة" 1/ 18.
قلت: ولا تناقض بين ما سبق وبين قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ}، فالقتال واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا ولا يتأتى ذلك إلا بغلبة المسلمين لعدوهم وعلو أحكام الإسلام على البلاد المفتوحة، أما عن أهل هذه البلاد فمن أسلم فبها ونعمت، ومن استمر على كفره فلا يُكره على اعتناق الإسلام، بل يبقى على كفره ولكن تحت حكم المسلمين، فالإكراه المنفي في سورة البقرة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هو الإكراه على الإيمان، أما الكراهة المثبتة في آية التوبة {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فهي كراهيتهم لعلو حكم الإسلام عليهم مع بقائهم على دينهم.
وقد تقرر في الشريعة قَبول الجزية من أهل الكتاب ومَنْ في حكمهم {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} ولا يكرهون على الإسلام، أما عَبَدَة الأوثان ففي قبول الجزية منهم خلاف.
قلت: وينبغي أن يعلم المسلم أن الإيمان يكون جهاد الطلب واجبا على المسلمين معناه مصادمة القوانين الدولية المعاصرة التي تحرم اعتداء الدول بعضها على بعض وتمنع امتلاك أراضي الأرض الغير بالقوة، هذه القوانين التي يتحايل عليها الأقوياء الذين وضعوها، ولكن قال الله تعالى: {فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي}، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ}، وهذه الأحكام كلها منوطة بالقدرة والاستطاعة، وهذه الاستطاعة يجب تحصيلها حين العجز لتحقيق هذه الواجبات، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.

٭ ٭ ٭



قول البعض إن توصيف هؤلاء المرتدين الحاكمين لبلاد المسلمين بأنهم كالعدو الكافر إذا حل ببلد المسلمين غير صحيح، لأن هذا في العدو الأجنبي عن بلد الإسلام أما هؤلاء الحكام فمن أهل البلد نفسه، فهناك فرق؟! وهذا الكلام قيل لإبطال الاحتجاج بفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية - في قتال التتار الممتنعين عن الشريعة مع ادعائهم الإسلام - قيل لا يحتج بهذه الفتوى لأن التتار أجانب عن بلاد الإسلام.
وفي الجواب عن هذا نقول: مسألة الحاكم المرتد فيها نص مستقل وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "وألا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"...هذا الحديث مقيد لجميع الأحاديث الواردة بالصبر على أئمة الجور، كأحاديث ابن عباس "من رأى من السلطان شيئا يكرهه فليصبر" وحديث عوف بن مالك "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" ونحوها، ولهذا فقد أورد البخاري حديث عبادة عقب أحاديث ابن عباس في الباب الثاني من كتاب الفتن من صحيحه إشارة منه إلى هذا القيد، وهذا يكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد في وجوب الخروج على هؤلاء الحكام.
أما هذه الأوجه الثلاثة وغيرها فنحن نذكرها لا لبيان شرعية الخروج عليهم - فهذا ثابت بحديث عبادة - ولكن لبيان فوائد أخر كتوكيد هذا الخروج وتقديمه على غيره من أنواع الجهاد، وفي رد هذه الشبهة نقول: لم نسمع بأن الشريعة وردت بالتفريق بين الكافر الأجنبي والكافر الوطني فيما يترتب على الكفر من أحكام، قال تعالى:
{يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، وقال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}، الغرض من هذه الآيات بيان أن العداوة بين المؤمن والكافر متعلقة بوصف الكفر، هذا هو مناط الحكم لا بوصف آخر ككون الكافر أجنبيا أو وطنيا، لأن العداوة واجبة وإن كان الكافر هو ابنك أو قومك وعشيرتك، فمناط الحكم هو صفة الكفر لا غير، وما قيل في العداوة يقال في العقوبة، فعقوبة الكافر متعلقة بكفره، أي: بقيام صفة الكفر به لا بسبب وصف آخر، وهذا هو مناط الحكم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بَدَّل دينه فاقتلوه" متفق عليه، فجعل عِلَّة القتل هي تبديل الدين، أي: الكفر بعد الإسلام، هذا هو مناط الحكم، إذا تبين هذا فنقول إن وصف الكفر الذي تترتب عليه العقوبة (قتل المقدور عليه وقتال الممتنع) هذا الوصف قائم بالكافر الأجنبي والوطني على السواء، وإذا تسلط هذا على المسلمين ببلد ما فلا فرق بين كونه قادما من خارج البلدة، وبين كونه من أهلها بحكمها فَكَفَر، أو كَفَر وتسلط عليها، فمناط الحكم قائم في كل هذه الأحوال، ومن كان من أهل البلدة فكفر خرج بكفره عن كونه من أهلها المسلمين وصار أجنبيا عنهم، لقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، فخرج بكفره عن كونه من أهله وصار أجنبيا عنه، على أن هناك أوصافا ثانوية تؤثر في العقوبة، ومن هذا التفريق بين الكافر الأصلي والمرتد، فالمرتد عقوبته أغلظ ... وكذلك التفريق بين الكافر المحارب والمسالم عند الثلاثة خلافا للشافعي، وكذلك التفريق بين الأقرب والأبعد في أولوية الجهاد...ومن هنا ترى أن هؤلاء الحكام المرتدين قد قامت بهم جميع الأوصاف المغلظة، كالردة والمحاربة والقرب، على النقيض مما يقابلها من الأوصاف المخففة وهي الكفر الأصلي والمسالمة والبعد، ومثل ما سبق: أن كل مسكر حرام، سواء كان اسمه خمرا أو كحولا أو نبيذا، وسواء كان مَحَلِّيا أو مستوردا، وسواء كان لونه أبيض أو أحمر، كل هذه ليست هي الأوصاف المؤثرة في الحكم، وإنما الوصف المؤثر وهو العِلّة ومناط الحكم هو الإسكار، طالما وجد هذا الوصف - دون اعتبار لبقية الأوصاف - وجد الحكم وما يترتب عليه، وهنا أيضا قد يوجد وصف ثانوي يؤثر في العقوبة، كمن شرب الخمر في نهار رمضان، فيقام عليه الحد ويعزر لحرمة الشهر، ولولا الوصف الأصلي (الإسكار) لما وجبت
عليه عقوبة أصلا، فالذي يقول بالتفريق بين الكافر الأجنبي والكافر الوطني في الأحكام هو كالذي يقول بالتفريق بين الخمر المستورد والخمر المحلي، فتأمل هذا.
ولا يشترط لوجوب قتالهم تَمَيّز المسلمين المجاهدين في دار منفصلة عن دار الحاكم المرتد وطائفته كما يَدَّعيه البعض، ويكفيك في إبطال هذا الشرط ما نقلته عن ابن تيمية آنفا من الإجماع على وجوب قتال العدو إذا حل ببلد المسلمين، فأين الدار المستقلة هنا؟ بل إن هذا هو أحد مواضع تَعَيَّن الجهاد...ولم يرد دليل شرعي بهذا الشرط وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولم يشر أحد من أهل العلم إليه، غاية ما ذكره ابن قدامة في هذا أنه إذا اقترب العدو من بلد جاز لأهله الرجوع إلى حصن يَتَحَصَّنون به.
أما أمر الحاكم الكافر المرتد ففيه نص واضح جليّ، وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "وَأَلا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" متفق عليه.
ولم يشترط صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث - ولا في غيره - تَمَيُّزًا ولا مفاصلة، ولا نبّه أحد من أهل العلم على هذا كالقاضي عياض وابن حجر
في شرح هذا الحديث، فإن قال الذي اشترط هذا الشرط (تَمَيُّز الدارين) إنه يجب عقلا لا شرعا، فنقول له العقل لا يوجب شيئا كما ذكرنا في أصول الاعتصام بالكتاب والسنة، وإن قال إنه أمر اجتهادي، فنقول له إذا وصلنا إلى الاجتهاد فالأمر متروك لأهل الخبرة الحربية لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، أما من الناحية الشرعية فنحن نقول إنه لا يشترط لوجوب الخروج على الحاكم إلا القدرة من عدد وعدة، وهذه أيضا يحدد القدر المطلوب منها أهل الخبرة الحربية، ومن غَرّر بنفسه وخرج للجهاد بمفرده جاز له ذلك وهو مأجور إن شاء الله تعالى، إلا إذا كان يتبع طائفة مجاهدة فلا يخرج إلا بإذن الأمير أما دليل جواز خروجه منفردا فهو قول الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال ابن حزم في "المحلى" 7/ 299:
"ويُغْزى أهل الكفر مع كل فاسق من الأمراء وغير فاسق ومع المتغلِّب والمحارب كما يُغْزَى مع الإمام ويغزوهم المرء وحده إن قدر أيضا".
قلت: وجهاد هؤلاء الطواغيت فرض عين فللمرء أن يفعله وحده إن أراد، خاصة إذا أمكنته الفرصة من أحد هؤلاء، ولا يجب عليه التصدي لجمع عظيم من الكافرين بل يجوز له الفرار للتفاوت العددي، فإن ثبت وكان له غرض في الشهادة جاز له ذلك وهو حسن، قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، أما الواجب فهو قتالهم في جماعة، إذ المطلوب إظهار الدين {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وهذا لا يتأتى بالقتال منفردًا، ومن كان يتبع جماعة مجاهدة فلا يقاتل إلا بإذن أميره، قال تعالى:
{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ}...وقد خرج جماعة من المسلمين على الحكام المرتدين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، دون تَمَيُّز في الديار أو مفاصلة، فلما خرج الأسود العنسي المتنبي الكذاب وغلب على اليمن واستولى عليها احتال عليه فَيْروز الديلمي - وكان من أنصاره في الظاهر - حتى قتله، وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - "البداية والنهاية" لابن كثير 6/ 307  -.
ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، وما قال أحد كيف يقتل فيروز هذا الأسود قبل أن ينحاز إلى أرض مستقلة؟ كذلك خرج يزيد بن الوليد وطائفة معه على الخليفة الوليد بن يزيد لما اتُّهِم بالانحلال في الدين حتى قتلوه، دون تَمَيُّز في الديار - "البداية والنهاية"10/ 6 -.
ونقتصر على هذين المثلين اختصارا، وأصحاب هذه الشبهة يستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَشْرَع في القتال إلا بعد الهجرة، حيث أصبح للمسلمين دار مستقلة بالمدينة تميزوا فيها عن عدوهم، وهذا القول ليس بحجة إذ ليس فيه حصر، بمعنى أنه لم يرد نص شرعي يمنع القتال إلا في مثل هذه الحالة، وهذا واضح، ثم إن هذا الزمان كان زمان تشريع أما الآن ومنذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد اكتملت الشريعة وأحكامها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وقد انعقد الإجماع على أنه إذا نزل العدو الكافر ببلد تَعَيَّن على أهله قتالهم - أي صار دفع الكافرين فرض عين على المسلمين بهذه البلدة - فهاهم المسلمون وعدوهم في دار واحدة، وقد فقد المسلمون استقلالية دارهم بالغزو، ومع ذلك يجب عليهم القتال عَيْنًا إجماعًا كما في "الاختيارات الفقهية" لابن تيمية (ص 309).
إن الخروج على الحاكم المرتد هو أمر منوط بالقدرة، ويختلف من بلد إلى بلد، ويتكلم فيه أهل الخبرة من الناحية التنفيذية، وإذا علم الله سبحانه حسن النية من طائفة مجاهدة فسيهديهم وييسر لهم ما فيه مرضاته، قال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}.
أما القاعدون عن هذا الجهاد المتعين فلم يكتفوا بالقعود بل هم يثبطون غيرهم ويخذلونهم بهذه الشبهات التي هي عقوبة قدرية لهم على قعودهم وتخلفهم، كما قال تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}، فلما تخلفوا طَبَع الله على قلوبهم بعدم الفقه فأخذوا يُنَقِّبون عن الشبهات ليبرروا تخلفهم وليثبطوا غيرهم فيحملوا أوزارهم مع أوزارهم، وهكذا سيئة تولِّد سيئة، قال تعالى: {إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}.
إن هذا القول باشتراط تَمَيُّز الدارين لوجوب الجهاد هو قول فاسد، وهو يفضي إلى تعطيل الجهاد خاصة جهاد الدفع.
قلت: كذلك فإن هذا القول باشتراط تميز الدارين معناه الاستسلام للأمر الواقع والسكوت عن هؤلاء الطواغيت الحاكمين لبلاد المسلمين، ومعناه إسقاط فريضة الجهاد المتعين على أعيان المسلمين بهذه البلاد، وهذا القول يفضي إلى استئصال الإسلام بالكلية من هذه البلاد في زمن يسير، نعوذ بالله من ذلك - ولكنه غير مستبعد - فكم من بلاد قامت بها ممالك إسلامية عظيمة ثم هي اليوم ديار كُفْر، صار فيها الإسلام أثرا بعد عين، كالأندلس والتركستان وبخارى وسمرقند والبلقان وغيرها، وكم من بلاد أَسْقَط فيها أشياع هؤلاء المخذلين الجهاد بشبهاتهم الشيطانية، كما حدث في الهند وكانت مملكة إسلامية فاحتلها الإنجليز، وأسقط علماء السوء الجهاد بحجة أن الإنجليز هم أولوا الأمر الواجب طاعتهم لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهذا مثال لما رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مما يهدم الدين: (جدال المنافق بالقرآن)، ومن كان من العلماء يصد المسلمين عن الجهاد بهذه الشبهات ممالأة ونصرة للحاكم الكافر فهذا العالِم لا شك في كُفْره، هو مرتد خارج من ملة الإسلام، وحكمه حُكْم سيده الحاكم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
ويشترط آخرون تميز الطائفة الكافرة عمن يخالطها من المسلمين، وهذا واقع فالطائفة المناصرة للحاكم الكافر عادة ما تكون متميزة بلباس معين ولها معسكرات محددة وأماكن معلومة، وهذا لا يخفى على أحد، وأما إذا خالطهم مسلمون، فإما أن يكونوا ليسوا من الطائفة الكافرة أصلا وخالطوهم حال القتال، وإما أن يكونوا من الطائفة ولهم حكم الإسلام في الباطن (كالمكره ومن يكتم إيمانه ليتجسس عليهم)، وهؤلاء جميعا لا يخلو حالهم من أحد أمرين:
الأول: أن يكونوا غير متميزين عن أهل الكفر في الظاهر، فهذا لا يمنع من قتالهم على كل حال كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قال:
"ومن أخرجوه معهم مكرها فإنه يبعث على نيته ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه، إذ لا يتميز المُكْرَه من غيره، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَغْزُو هذا البيتَ جيشٌ من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذا خُسِفَ بهم. فقيل يا رسول الله: إن فيهم المُكْرَه، فقال: يُبعثون على نياتهم) - إلى أن قال - وفي لفظ البخاري عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) - إلى أن قال - فالله تعالى أَهلَكَ الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته - المكره فيهم وغير المكره - مع قدرته على التميِيزِ بينهم - مع أنه يبعثهم على نياتهم، فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين الْمُكْرَه وغيره وهم لا يعلمون ذلك؟! بل لو ادعى مُدَّع إنه خرج مُكرها لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه، كما روى: إن العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسَرَه المسلمون يوم بدر: يا رسول الله! إني كنت مكرها. فقال: (أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله)".
وقال رحمه الله في موضع آخر:
"ونحن لا نعلم المُكْرَه، ولا نقدر على التمييز، فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين، وكانوا هم على نياتهم، فمن كان مكرها لا يستطيع الامتناع فإنه يُحشر على نيته يوم القيامة، فإذا قتل لأجل قيام الدين لم يكن ذلك بأعظم من قَتْلِ من يُقْتَل من عسكر المسلمين".
قلت: وقد فصلت في الرسالة الأخرى شروط الإكراه المعتبرة شرعا لموافقة الكفار على ما يريدون، وأن هذه الشروط لا تتوفر في الغالبية العظمى من أعوان هؤلاء الحكام، وذكرت أيضا أن الإكراه لا يكون عذرا مبيحا لقتل المسلم بإجماع العلماء بلا مخالف. فكيف بمن يتتبع المسلمين ويقتلهم لنصرة الكافر؟
الحال الثاني: أن يكون المسلمون في صف العدو متميزين ظاهرا، معلومين لجند الإسلام فهذه هي مسألة التترس، قال ابن تيمية رحمه الله:
"بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا، فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على مسلمين إذا لم يقاتلوا: فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار، ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء، ومن قتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله - وهو في الباطن مظلوم - كان شهيدا، وبُعِث على نيته، ولم يكن قَتْلُه أعظم فسادا من قَتْلِ من يُقْتَل من المؤمنين المجاهدين، وإذا كان الجهاد واجبا وإن قُتِلَ من المسلمين ما شاء الله، فَقَتْلُ من يُقْتَل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا، بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المُكْرَه في قتال الفتنة بكسر سيفه، وليس له أن يُقَاتِل وإن قُتِل".
والذين يقولون بشرط تَمَيُّز الطائفة الكافرة عن المسلمين لهم شبهة، حيث يستدلون بقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، ومعناها: أي: ولولا أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بمكة من المستضعفين، لا تعلمونهم أيها المسلمون، وإذا قاتلتم أهل مكة يوم الحديبية لكان من الممكن أن تقتلوا بعض هؤلاء المؤمنين وتصيبكم من هذا معرة (أي: عيب وإثم)، {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: تَمَيَّز وانفصل المؤمنون عن الكفار لعذب الله الكفار بالقتل وغيره.
فاستدل البعض بهذه الآية على أن مخالطة المؤمنين للكافرين مانعة من قتال الكافرين وعُذْر في ترك قتال الكافرين، لما ينتج عنه من قتل بعض المؤمنين المخالطين، وكما لا يخفى، فهذا القول يفضي إلى تعطيل الجهاد بنوعيه (قتال الطلب وقتال الدفع) فما من بلد الآن إلا به مسلمون مخالطون للكفار بنسب مختلفة، يوجد مسلمون بالصين والهند وروسيا وأمريكا وغيرها وكلها ديار كُفْر، أفيمنع هذا من جهادهم عند الاستطاعة؟
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
الأول: أن المنع من القتال يوم الحديبية كان منعا قدريا، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قَصَد مكة معتمرا، فعزم أهل مكة على مَنْعِه من دخولها، فَعَزَم على قِتَالهم إن هم منعوه بعد مشاورة مع الصحابة، كما رواه البخاري: "قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ قَالَ امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا العزم إلى أن توقفت ناقته عن المسير، فقال بعض الصحابة: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطَّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، أي: منعها عن المسير إلى مكة الذي حبس الفيل وأبرهة عن مكة سبحانه وتعالى، فهذا منع قدري، فعَلِم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لم يأذن في هذا، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قَبول الصلح، وشَرع فيه، ثم بلغه مقتل سفيره إلى أهل مكة وهو عثمان رضي الله عنه، فعندها عزم على القتال مرة أخرى وأخذ البيعة من أصحابه وهي بيعة الرضوان على ألا يفروا أو على الموت، ثم أُطْلِق عثمان وشاء الله تعالى أن يمضي الصلح، كل هذا والآية المُسْتَدل بها بل والسورة كلها (سورة الفتح) لم تكن قد نزلت بعد، وإنما نزلت عند الإنصراف من الحديبية، وكما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على القتال مرتين، الأولى عندما مَضَى فحُبِسَت ناقته والثانية عندما أَخَذَ البيعة، ومع عزمه على القتال في المرتين كان صلى الله عليه وسلم يعلم بوجود مؤمنين مستضعفين في مكة وكان يعلم بعضهم عَيْنًا وكان يدعو لهم بالنجاة، فلم يمنعه وجود المستضعفين من العزم على القتال، بل القتال واجب لاستنقادهم، لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ...}، ولكن الله لم يأذن في القتال قدرا لا شرعا، إذ لو مُنِع شرعا (بالوحي) لما مَضَى ولما أخذ البيعة، وهذا المنع القدري لحكمة يعلمها الله تعالى منها وجود المستضعفين بمكة ومنها أن الصلح ترتب عليه نفع عظيم إذ أَمِن الناس فدخل في الإسلام أضعاف من دخله قبل، كما في الآية: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، حتى سمى الله تعالى هذا الصلح فتحا كل هذا في بيان أن منع القتال يوم الحديبية كان منعا قدريا.
وفي إبطال الاحتجاج بالقدر قال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" 2/ 323-326: 
"وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر، بل القدر يُؤْمن به ولا يُحْتَج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين، متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرا، لزم أن لا يُلام أحد، ولا يعاقب ولا يُقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه - إذا ظُلِم في نفسه وماله وعرضه وحرمته - أن لا ينتصر من الظالم، ولا يغضب عليه، ويذمّه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة، لا يمكن أحدا أن يفعله، فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.
ولو كان القدر حجة وعذرا: لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزا، ولا إقامة الحدود جائزا، ولا قطع السارق، ولا جلد الزاني ولا رجمه، ولا قتل القاتل ولا عقوبة مُعْتَدٍ بوجه من الوجه - إلى أن قال رحمه الله - فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر".
الوجه الثاني: الخصوصية، وهي أن هذا المنع من القتال لاختلاط المؤمنين بالكفار في مكة كان خاصا بقصة الحديبية دون غيرها، ولا يستدل به على ما شابَهَهَا، وهذا القول بالخصوصية إن شاء الله تعالى هو الصواب، والله تعالى أعلم، ودليل ذلك:
* أن الله سبحانه منع رسوله صلى الله عليه وسلم من غزو مكة يوم الحديبية (سنة 6 ه) منعا قدريا، ثم أَذِنَ له في غزوها بعد ذلك بسنتين يوم فتح مكة (سنة 8 ه) إذنا شرعيا، والبلد هو البلد (مكة)، والمستضعفون لم يزل بعضهم بمكة كابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: "لما فَتَحَ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حَبَسَ عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن لأحد من بعدي".
وبهذا تعلم أن المنع يوم الحديبية كان خاصا لأن نفس البلد أحل بعد ذلك، والبلد هو البلد، والمستضعفون لم يزل بعضهم بها.
* ومما يدل على الخصوصية أيضا أن هناك مواقف خالط فيها المؤمنون الكافرين والعصاة، ووقع القتل أو العذاب بالجميع، ولم يَحُل دون ذلك منع قدري من الله تعالى كما حدث يوم الحديبية، فدل هذا على خصوصية النص بقصة الحديبية، ولا مانع من أن يحدث مثله قدرا، أما شرعا فليس بحجة، ومن المواقف التي حدثت فيها المخالطة ولم يمنع القتل أو العذاب قدرا ما يلي:
ما رواه أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله، قال:
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خَثْعَم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى نارهما".
ومنها حديث البيداء المذكور في كلام ابن تيمية السابق، فهذا الجيش أهلكه الله تعالى مع أن فيهم المُكْرَه ومن ليس منهم.
ومنها ما رواه البخاري (7108) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنزَلَ الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم".
ومنها ما رواه البخاري (7059) عن أم المؤمنين زينب بنت جحش قال: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث".
ومنها ما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة مرفوعا: "إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون، قُبِضُوا معهم ثم بُعِثُوا على نياتهم وأعمالهم".
وهذه الأحاديث كلها في معنى حديث البيداء.
قلت: والقول بالخصوصية ليس معناه أن المؤمن المخالط للكافرين لا حرمة له أو أنه مهدر الدم، لا بل هو معصوم بإيمانه أينما كان، وإنما القول بالخصوصية معناه أن هذه المخالطة ليست بمانعة من قتال الكافرين وإن تيقن أن بينهم مسلمين سيقتلون ضمنا، وذلك إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك، وهذا هو ما استقر عليه قول جمهور الفقهاء، ويجب أن يشاع هذا العلم في المسلمين كي يَحْذَروا من مخالطة الكافرين، وفي تفسير قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أورد القرطبي أن مالكا رحمه الله لا يرى رمي المشركين إذا علم أن بينهم مسلمين مستدلا بهذه الآية، وقال إن أبا حنيفة أجاز ذلك، ثم قال القرطبي: "قد يجوز قتل التُّرس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية، فمعنى كونها ضرورية، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس، ومعنى أنها كلية، أنها قاطعة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قَتَلَ الكفارُ الترسَ واستولوا على كل الأمة ومعنى كونها قطعية، أن تلك المصلحة حاصلة من قَتْل الترس قطعا، قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يُخْتَلَف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين، وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون، ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يُقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نَفَرَت منها نفس من لم يُمْعِن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما يحصل منها عدم أو كالعدم، والله أعلم".
قلت: وهذا كلام يَشْفي العليل ويَرْوى الغليل، فإنه لا خلاف بين الأمة في وجوب حفظ الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والنسل (النسب) والعقل والمال، ولا خلاف في أن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس، ولهذا شُرِع الجهاد لحفظ الدين مع أن فيه ذَهَاب الأنفس والأموال، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعدًا عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاة وَالإِنْجِيل وَالقُرْآن}، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
ولا شك أن الضرر النازل بالمسلمين من تسلط الحكام المرتدين عليهم، وما في ذلك من الفتنة العظيمة، هذا الضرر يفوق أضعافا مضاعفة قتل بعض المسلمين المكرهين في صف العدو أو المخالطين له عن غير قصد حال القتال، إن كثيرا من بلدان المسلمين تسير في طريق الردة الشاملة من جراء هؤلاء، فأي فتنة أعظم من هذا، هذه فتنة تفوق ما يصيب المسلمين بالجهاد من قتل أو سجن أو تعذيب أو تشريد، قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ}، وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}، فيجب دفع المفسدة
العظمى (فتنة الكفر والردة) بتحمل المفسدة الأخف (وهو ما يترتب على الجهاد من قتل وغيره) وهذا هو المقرر في القواعد الفقهية الخاصة بدفع الضرر، كقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقاعدة (يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) وقاعدة (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف) وقاعدة (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا) وقاعدة (يُختار أهون الشرين) وغيرها، وقال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 355:
"وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}، أي: أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه".
ألا ترون إلى ما يجري للمسلمين في كثير من البلدان؟ تستباح دماؤهم وأموالهم بأحكام الكفر، مع إشاعة الفجور والفواحش والتجهيل المعتمد بالدين والاستهزاء بالإسلام وأهله، ليشب النشئ على صلة باهتة بدينه، أي فتنة أعظم من هذا، وماذا بقي للمسلمين؟ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.


٭ ٭ ٭





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام