words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(29) الرد على شبهة لا جهاد بلا إمام




يثير البعض شبهة وهي كيف نجاهد وليس للمسلمين خليفة؟ وهي شبهة أوحى بها الشيطان للمخذلين والمثبطين عن الجهاد في هذا الزمان، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، إنه في غياب الحكم الإسلامي والخلافة لو اجتمعت طائفة من المسلمين على القيام بواجبات الدين، فهذا واجب في حد ذاته، فإنه يتعين على جماعة المسلمين أن يختاروا الأمير بأنفسهم، ومن أمثال هذا:
- إذا فقد الأمير المُعَيَّن من جهة الإمام (بقَتْل أو أَسْر أو عَجْز) ولم يتمكن المسلمون من مراجعة الإمام، ولم يكن لهم عدة أمراء على الترتيب أو انتهوا.
- إذا شرع المسلمون أو طائفة منهم في عمل من الأعمال الجماعية (خاصة التدريب والجهاد) ولم يكن للمسلمين إمام كما هو الحال في زماننا الآن.
فعلى المسلمين أن يختاروا أحدهم للإمارة ولا يصح أن يعملوا بدون إمارة، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم سلطة التأمير هذه بقوله: "فليؤمِّروا" من حديث "إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ" أخرجه أبو داود (2608)، وأبو عوانة (7538) من حديث أبي سعيد الخدري [[1]].
فأسند صلى الله عليه وسلم سلطة التأمير إلى هذا الجمع الذي اجتمع على أمر مشترك بينهم وهو السفر.
ويستدل أيضا بفعل الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة مؤتة بعد مقتل الأمراء الثلاثة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فاتفقوا على تأمير خالد بن الوليد، وقد رَضِيَ النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا.
روى البخاري (3063) بسنده عن أنس رضي الله عنه:
"قال خَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح الله عليه، وما يسرهم أنهم عندنا. قال أنس: وإن عينه لتَذْرِفان".
وفي رواية أخرى للبخاري (4362) عن أنس: "حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم".
قال ابن حجر في "الفتح" 7/ 512:
"ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فالتوى بها بعض الالتواء ثم تقدم على فرسه ثم نزل فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري، فقال اصطَلِحوا على رجل، فقالوا: أنت لها، فقال: لا، فاصطلحوا على خالد بن الوليد وروى الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري قال: أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب عبد الله بن رواحة، فدفعها إلى خالد بن الوليد، وقال له: أنت أعلم بالقتال مني".
وقال ابن حجر أيضا 7/ 513:
"وفيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير - أي بغير نص من الإمام - قال الطحاوي: هذا أصل يؤخذ منه على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب
الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر".
وقال ابن حجر كذلك 6/ 180:
"قال ابن المنير: يؤخذ من حديث الباب أن من تعيّن لولاية وتعذرت مراجعة الإمام أن الولاية تثبت لذلك المعيَّن شرعا وتجب طاعته حكما. كذا قال، ولا يخفى أن محله ما إذا اتفق الحاضرون عليه".
وقال ابن قدامة في "المغني" 10/ 374:
"فإن عدم الإمام لم يُؤخَر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع، قال القاضي: ويؤخر قسمة الإمام حتى يظهر إمام احتياطا للفروج، فإن بعث الإمام جيشا وأَمَّر عليهم أميرا فقُتل أو مات، فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة لما قتل أمراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أمَّروا عليهم خالد بن الوليد، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرَضِيَ أَمرهم وصَوَّبَ رأيهم، وسمى خالدا (سيف الله)".
فالواجب على المسلمين أن يؤمروا أحدهم عليهم للجهاد في غياب الإمام، وهذا قول البخاري - كتاب الجهاد: باب من تأمَّر في ا لحرب بغير إمرة -
وقول ابن حجر، والطحاوي، وابن المنير، وابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية - كما تقدّم آنفا - وعمدة هذه المسألة هو حديث غزوة ومؤتة حيث أمَّر الصحابة خالدا عليهم لما قُتِل أمراؤهم وهم في غيبة عن الإمام (النبي صلى الله عليه وسلم) فرَضِيَ النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا [[2]].
وهناك دليل آخر، وهو حديث عبادة بن الصامت: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
فهاهو الخليفة أو الإمام قد كَفَر وسقطت ولايته، ويجب الخروج عليه وقتاله وعزله ونصب إمام عادل، وهذا واجب بإجماع الفقهاء كما نقل ذلك النووي في "شرح صحيح مسلم" 12/ 229، وابن حجر في "الفتح" 13/ 7 و  8 و 123، فهل نقول لا نخرج على الحاكم الكافر إذ لا إمام، ومن أين لنا الإمام وقد كَفَر ووجب الخروج عليه؟! أم ننتظر إمامًا مُغَيَّبا ونترك المسلمين لفتنة الكفر والفساد؟ أيقول بهذا مسلم؟ إن الحديث السابق فيه تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بمقاتلة الإمام والخروج عليه إذا كَفَر، فنحن نسأل أصحاب هذه الشبهة كيف يُقاتِل المسلمون في هذه الحالة حيث لا إمام؟ والرد الشرعي هو أن يفعلوا كما فعل الصحابة في مؤتة فيؤمروا أحدهم، وهذه الشبهة هي من صميم اعتقاد الشيعة وَرَدَ في العقيدة الطحاوية: "(والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين...) قال الشارح: يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الرافضة حيث قالوا: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد، وينادي مناد من السماء: اتبعوه!! وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدل عليه بدليل" "شرح العقيدة الطحاوية" (ص 437).
ومع أن الشيعة خالفوا هذه العقيدة مع بَدء ثورة الخميني وهذا من أظهر الأدلة على فساد هذا الاعتقاد الذي مازال مكتوبا في كتبهم، فالعجيب هو أن تعلق هذه الشبهة ببعض المنتسبين إلى أهل السنة، روى مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعا: "لن يبرح هذا الدين قائما يُقاتِل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة".
أليس (لن يبرح، ولا تزال) أفعال تفيد الاستمرار؟!
أي استمرار القتال على الدين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى أنه سيأتي على المسلمين زمان لا يكون لهم فيه إمام، ومع ذلك فقد نص صلى الله عليه وسلم على استمرار القتال، فالجهاد في سبيل الله لا يتوقف بسبب غياب الإمام، بل يؤمِّر المسلمون أحدَهم كما في حديث مؤتة، بل إن غياب الإمام هو من دوافع الجهاد لِنُصْبَة الإمام الذي يقيم الشريعة ويحوط الملة، وعلى كل مسلم في هذه الحالة أن يعتصم بهذه العصابة المذكورة في حديث جابر بن سَمُرة وهي الطائفة المنصورة.
وقد يظن البعض أنه لم يكن المسلمون بلا خليفة إلا في زماننا هذا، وهذا خطأ، بل قد مرت على المسلمين أزمنة لم يكن لهم فيها خليفة، ومن أشهر تلك الأزمنة السنوات الثلاث من 656 هـ (وفيها قَتَلَ التتار الخليفة العباس المستعصم ببغداد) إلى 659 هـ (وفيها بويع أول خليفة عباسي بمصر) انظر "البداية والنهاية" 13/ 231، ورغم انعدام الإمام إذ ذاك فقد خاض المسلمون معركة هي من مفاخر المسلمين إلى اليوم وهي معركة عين جالوت ضد التتار في 658 هـ، حدث هذا في توافر أكابر العلماء كعز الدين بن عبد السلام وغيره ـ
ولم يقل أحد كيف نجاهد وليس لنا خليفة؟ بل إن قائد المسلمين في هذه المعركة (سيف الدين قطز) كان قد نَصَبَ نفسه بنفسه سلطانا على مصر بعد أن عزل ابن أستاذه من السلطنة لكونه صبيا صغيرا، ورضي بذلك القضاة والعلماء وبايعوا قطزا سلطانا، وعَدَّ ابن كثير فعل قطز هذا نعمة من الله على المسلمين إذ به كسرَ الله شوكةَ التتار. انظر "البداية والنهاية" 13/ 216.
كما عد ابن تيمية هذه الطوائف التي قاتلت التتار في تلك الأزمنة من الطائفة المنصورة، فقال كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 531:
"أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام وهم من أحق الناس دخولا في الطائفة المنصورة".
وهذه القصة، من سيرة السلف الصالح فيها رد على شبهة (لا جهاد بلا إمام) بالإضافة إلى الأدلة النَّصَّية وهي حديث غزوة مؤتة وحديث عبادة بن الصامت فيما إذا كفر الإمام، وهذه الشبهات سنة قدرية كانت ومازالت ولن تزال طالما وُجِدت طائفة مجاهدة قائمة بأمر الله - وهي باقية إلى نزول عيسى عليه السلام - قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" متفق عليه.
وقال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة، الآية: 54]، وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاهدين بالظهور بأن المخذلين والمخالفين لن يضروهم، وإنما هي فتن تتميز بها الصفوف.


٭ ٭ ٭
______________________ 
[1] - أراد أحدهم إبطال قياس الإمارة على الجماعات على إمارة السفر بستة وجوه، فقال:
"1 - إمارة السفر فيها نص صريح صحيح، أما هذه الإمارة فلا نص عليها، والقياس بعيد لانتفاء العلة، ولا يكون إلا لمجتهد، كما نص الأصوليون.
2 - تنتهي إمارة السفر بانتهائه، بخلاف الإمارات الاستثنائية ذات [كمال الطاعة]!
3 - إمارة السفر مصلحة كلها، أما الإمارة الاستثنائية الأخرى فهي تفرق وتفسد فالقياس ظاهر بالبطلان!
4 - لو اتفق أناس فيما بينهم على إقامة الحدود على شارب الخمر والزاني وغير ذلك، فهل هذا يُقْبَل؟ هو باطل بإجماع الأمة من المحالفين والمخالفين فهذا قياس يبطل ذلك القياس!!
5 - إمارة السفر محدودة بأمور، فهي للترتيب، لا للسمع والطاعة بكمالهما!!
6 - أما أنها (عهد) فهذا لم يكن من منهاج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بل كان واقعهم خلاف ذلك تماما ... الخ".
الرد عليه سيكون بترقيم كلامه، وصورته (رقم كذا) ثم نتبعه بالرد:
رقم (1 - إن إمارة السفر فيها نص صريح بخلاف الإمارة على الجماعات ولا تقاس الثانية على الأولى لانتفاء العلة، والقياس لا يكون إلا لمجتهد) جوابه من عدة وجوه أجملها:
الأول: أن إمارة الجماعات لا ترتكن على إمارة حديث السفر فقط بل هناك أدلة أخر.
الثاني: أن قياس إمارة الجماعات على إمارة السفر هو قياس صحيح للعلة المشتركة.
الثالث: أن هذا القياس قد ذكره أكثر من مجتهد.
أما الأول: وهو أن هناك أدلة أخر على شرعية إمارة الجماعات، فسبب نشأة هذه الجماعات التي يعنيها هو غياب الحكم الإسلامي وعدم وجود إمام للمسلمين، فلو اجتمعت طائفة من المسلمين في مثل هذا الحال على القيام بواجبات الدين، وهذا واجب في حد ذاته، لوجب على هذه الطائفة تأمير أحدهم عليهم:
أ - لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ولقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فلا بد للناس من ولاة يَجْمَعون شملهم ويقومون بشئونهم وينظمون أعمالهم بدلالة الإشارة إلى هاتين الآيتين، ولا يحل للمسلمين أن يبقوا في طاعة الحكام الكافرين ما استطاعوا
ذلك، كما ذكرت في شروط الإمارة أنه لا ولاية لكافر على مسلم، وكل متبوع من السلطان أو العلماء أو أمراء الجماعات أو غيرها فهو داخل في هذه الآية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 180:
"وكل من كان متبوعا فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا
يطيعه في معصية الله".
ب - فإذا كانت جماعة من الجماعات قائمة لأجل الجهاد في سبيل الله، فلا حاجة لنا في اللجوء إلى القياس على إمارة السفر طالما لدينا نص خاص في المسألة، إذ القياس
اجتهاد ولا اجتهاد مع النص، والنص المقصود هو حديث غزوة مؤتة وتأمير الصحابة
لخالد بن الوليد.
وأما الوجه الثاني: وهو أن قياس إمارة الجماعات على إمارة السفر هو قياس صحيح للعلة المشتركة.
فنقول القياس هو إثبات حكم مثل حكم الأصل في الفرع بعلة متحدة، والأصل هو الواقعة التي ورد حكمها بالنص الشرعي، والفرع: التي لم يرد بحكمها نص شرعي، والعلة هي الوصف الظاهر المنضبط المناسب المتعدي الذي بُني عليه حكم الأصل وبتحقق هذا الوصف في الفرع يثبت له مثل حكم الأصل.
وفي موضوعنا: الأصل المنصوص على حكمه هو اجتماع ثلاثة على سفر، والحكم هو وجوب الإمارة (وجوب تأمير أحدهم عليهم)، والفرع هو إمارة الجماعات، فهل علة
حكم الأصل متحققه في الفرع حتى يثبت له نفس الحكم أم لا؟
فالبحت الآن هو في: ما هي العلة في إمارة السفر؟ وهي التي لم يذكرها الْمُبطل.
والحق أن العلة ثابتة بالنص في نفس الحديث ولكنها مفتقرة إلى تنقيح المناط لتعدد الأوصاف المترتب عليها الحكم في الحديث، فيجب تحديد أي هذه الأوصاف هو المؤثر في الحكم؟
والأوصاف التي انبنى عليها الحكم في حديث إمارة السفر، هي وصفان: السفر واجتماع ثلاثة من الناس على أمر جامع بينهم.
فإذا أثبتنا بالنص أن إمارة السفر لا تجب لما دون الثلاثة كما في سفر اثنين من الناس، فيكون الوصف المؤثر في الحكم هو العدد (الثلاثة) لوجود وصف السفر في سفر الإثنين
وتخلف الحكم وهو وجوب الإمارة، فلو كان السفر هو العلة لوجب حكم الإمارة في سفر الإثنين، وبالتالي ندرك أن الحكم (الإمارة) مترتب على العدد (الثلاثة كحد أدنى)
وليس على السفر.
فما هي النصوص التي وجد فيها سفر ما دون الثلاثة ولم تجب فيها الإمارة؟
نقول منها ما روى البخاري (2848) في كتاب الجهاد - (باب سفر اثنين)، عن مالك بن الحويرث قال: "انصرفت من عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا، أنا وصاحب لي، أذنا
وأقيما وليؤمكما أكبركما".
فهذا الحديث وجد فيه وصف السفر ولم يوجد فيه وصف العدد وهو الثلاثة، ولم يوجد فيه الحكم بالإمارة أي لم يُؤَمِّر الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهما ولا أوكل هذا إليهما، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فدل هذا على أن الإمارة كحكم مرتبطة بالعدد (الثلاثة كحد أدنى) وليست مرتبطة بالسفر.
ومما يدل على تعلق الإمارة بالعدد لا بالسفر قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأَمَّرَن على اثنين ولا تَولَّين مال يتيم" أخرجه مسلم.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تأَمَّرَن على اثنين) يدل على أن الإمارة تجب على الثلاثة فصاعدا، وهذا يرجح أن وجوب الإمارة في حديث السفر متعلق بالعدد وليس بالسفر.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمِّروا" فالإمارة لا تجب إلا على ثلاثة فصاعدا، ويعضد هذا، وهو ارتباط الإمارة بالعدد وأقله ثلاثة، ما رواه البخاري (7098) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "وما أنا بالذي أقول لرجل - بعد أن يكون أميرا على رجلين - أنت خير، بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار بِرَحَاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله".
وأسامة رضي الله عنه كان ينفي بهذا تهمة المداهنة عن نفسه كما في شرح الحديث، والشاهد من كلامه قوله: (أقول لرجل بعد أن يكون أميرا على رجلين) فبيَّن أقل ما تجب فيه الإمارة، وهو ثلاثة، أمير وتابعان، كما أن اللغة تعضد ما ذهبنا إليه من تعلق الإمارة بالعدد وليس بالسفر، فقد قال الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن":
"وقيل أَمِرَ القوم - بهمزة مفتوحة وميم مكسورة وراء مفتوحة - كَثُروا، وذلك لأن القوم إذا كثروا صاروا ذا أمير، من حيث أنهم لابد لهم من سائِس يسوسُهم، ولذلك قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم".
نتوصل مما سبق إلى حقيقتين:
إحداهما: أن إمارة السفر لا تجب لما دون الثلاثة، فلا تجب في سفر الاثنين، فالإمارة متعلقة بالعدد وليس بالسفر.
الثانية: أن أقل عدد تجب فيه الإمارة هو ثلاثة، لحديث أبي ذر: "لا تأمرن على اثنين" ولحديث أسامة بن زيد: "لرجل أن يكون أميرا على رجلين" وهذا العدد هو نفسه
المذكور في حديث إمارة السفر، فهذه الإمارة متعلقة بالعدد لا بالسفر وهذا هو تنقيح المناط.
فإذا توصلنا أن العلة هي العدد أي اجتماع ثلاثة من الناس على أمر جامع بينهم فهذه العلة متحققة ولا شك في سائر الجماعات، فتقاس بذلك إمارة الجماعات على إمارة
السفر.
فإن قيل: فما الحكمة من ذكر السفر في الحديث؟ فنقول إن المسافرين ينقطعون بالسفر عن نظر الإمام أو والي البلدة الذي يلي أمر المقيمين، فيجب على المسافرين أن يؤمروا منهم من يلي أمرهم، فالانقطاع عن نظر الإمام - بالسفر ونحوه - من دواعي نصب الأمير، وهذا يمكن أن يكون عِلَّة ثانية للحكم لولا أنه لم يستقل بالتعليل لوجود وصف الانقطاع عن نظر الإمام في سفر الاثنين مع تَخَلُّف الحكم بوجوب الإمارة، وعلى أي حال فإن هذا الوصف - وهو الانقطاع عن نظر الإمام لانعدامه الآن - هذا الوصف موجود بالنسبة للجماعة الإسلامية المعاصرة مما يزيد وجوب الإمارة عليهم توكيدا.
وأما الوجه الثالث: وهو أن هذا القياس صححه أكثر من مجتهد، وأن الإمارة واجبة، ودلت على ذلك:
1 - يقول الإمام الشوكاني، حيث استدل بحديث إمارة السفر على وجوب نصبة ولاية القضاء والإمارة وغيرها، ولم يذكر في هذا الباب حديثا غيره، وقد قاس هذه
الولايات على إمارة السفر، فقال بعد أن ذكر روايات حديث إمارة السفر، فقال في "نيل الأوطار" 9/ 157:
"وفيها دليل على أنه ُيشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدا أن يؤمروا عليهم أحدهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلاف فَمَعَ عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه وبفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يقل الإختلاف وتجتمع الكلمة وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى وفي ذلك دليل لقول من قال إنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام".
فذكر أن الحكم (وجوب الإمارة) مترتب على العدد حيث قال: (يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدا أن يؤمروا عليهم أحدهم) وذكر الشوكاني أن هذا يجب على المقيمين من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
2 - واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية بحديث إمارة السفر على وجوب الإمارة في سائر أنواع الاجتماع، فهو ينص بذلك على أن علة الإمارة هي اجتماع، وقد ذكر هذا في أكثر من موضع من فتاويه فقال في رسالة "الحسبة" (ص 1-3):
"وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال:
الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها ويجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة: ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا يد لهم من طاعة آمر وناه - إلى أن قال - ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى، ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) وفي سننه أيضا عن أبي هريرة مثله.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا أحدهم).
فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولي أحدهم: كان هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك".
وقال رحمه الله في رسالة "السياسة الشرعية" (ص 129):
"يجب أن يُعْرَف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم).
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم).
فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة".
قلت: فانظر إلى قول شيخ الإسلام (فهو تنبيه على أنواع الاجتماع) وقد كرر هذا في سائر المواضع، فهو ينص على أن الإمارة للاجتماع لا لمجرد السفر، وهذان مجتهدان (ابن تيمية والشوكاني) لا خلاف بين المسلمين على إمامتهما ومنزلتهما في العلم، قد نَصَّا على أن عِلة الإمارة هو الاجتماع وقاسا إمارة سائر أنواع الاجتماع على إمارة السفر، وأنها من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، بالإضافة إلى ما سبق فإن إيراد أبي داود لهذا الحديث في كتاب الجهاد من سننه فيه إشارة منه إلى ما ذهبنا إليه.
وبهذا نكون قد استكملنا الأوجه الثلاثة في الرد على الاعتراض الأول.
رقم (2 - أن إمارة السفر تنتهي بانتهائه ... الخ) حجة عليه إذ إن الجماعة الدائمة أولى بالإمارة لضبط أحوالها من الجماعة المؤقتة العارضة كجماعة السفر.
رقم (3 - أن إمارة السفر مصلحة كلها بخلاف غيرها) كلام لم يثبته بدليل شرعي وهو ما يجب الرد إليه عند التنازع، وبالتالي هو قولٌ مردود عليه، وتعميم لا أساس له من الشرع وهو قوله: إن الإمارات الأخرى تُفرق وتُفسد. نريد دليلا شرعيا لا من الواقع.
رقم (4 - لو اتفق أناس فيما بينهم على إقامة الحدود ـ إلى قوله ـ هو باطل بإجماع الأمة) أقول في الرد عليه: لو اتفق أناس فيما بينهم على إقامة الأحكام الشرعية، فلا يخلو أن يكون حالهم أحد الحالتين: الأول أن يكونوا في بلد يحكمه إمام مسلم وتجري عليه أحكام الشريعة، والثاني: أن يكونوا في بلد ليس له إمام مسلم ولا تحكمه الشريعة.
ففي الحال الأول: في دار الإسلام التي تعلو أحكام الشريعة ويحكمها إمام مسلم ويتولى فيها القضاة المُعيَّنون من قِبَل الإمام الحُكْمَ بين الناس، أقول حتى في هذه الحالة يجوز للناس أن يتحاكموا إلى رجل مؤهل للقضاء برضاهم بخلاف قاضي الإمام وتلزمهم أحكامه، وهذا ما قرره السادة الفقهاء كما يلي:
* قال ابن ضويان في شرح الدليل:
"(فلو حَكَّمَ اثنان فأكثر بينهما ما شخصا صالحا للقضاء: نَفَذَ حُكْمُه في كل ما ينفذ فيه حكم من وَلاَّه الإمام أو نائبه) لحديث أبي شريح، وفيه أنه قال "يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فَرَضِيَ كلا الفريقين. قال ما أحسن هذا!) رواه النسائي.
وتحاكم عمر وأُبَيٌ إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد منهما قاضيا) -ـ قال في المتن - (ويَرْفَعُ الخِلافَ، فلا يحل لأحد نقضه حيث أصاب الحق) - قال في الشرح - لأن من جاز حكمُه لَزِمَ كقاضي الإمام.
* وفَصَّل ابن قدامة هذه المسألة في كتابه الكافي، وفي كتابه المغني، وإليك كلامه في المغني:
"(فصل) وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حَكَّماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم بينهما، جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة وللشافعي قولان (أحدهما) لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما، لأن حكمه غنما بالرضى به ولا يكون الرضى إلا بعد المعرفة بحكمه.
ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (إن الله هو الحَكَم فلِم تُكَنَّى أبا الحكم؟) قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكَمْتُ بينهم ورَضِيَ عَلَيَّ الفريقان، قال: ما أحسن هذا فمن أكبر ولدك؟ قال شريح قال فأنت أبو شريح" أخرجه النسائي.
ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من حكم بين اثنين تَرَاضيَا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون" ولولا أنه حكمه يلزمهما لما لَحِقَه هذا الذم، ولأن عمر وأُبَيًّا تحاكما إلى شريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة.
فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا، قلنا لم ينقل عنهما الرضى إلا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يصير قاضيا، وما ذكره بما إذا رضي بتصرف وكيله فإنه يلزمه قبل المعرفة به، إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: للحاكم نقضه إذا خالف رأيه لأن هذا عقد في حق الحاكم فمَلَك فسخه كالعقد الموقوف في حقه، ولنا أن هذا حكم صحيح لازِمٌ فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية، وما ذكروه غير صحيح فإن حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفا؟ ولو كان كذلك لملك فسخه وإن لم يحالف رأيه ولا نسلم الوقوف في العقود.
إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخَصْمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم لأنه لا يثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو تراجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع (والثاني) ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحَكَم ما لا يوافقه رجع فبطل المقصود به.
(فصل) قال القاضي: وينفذ حُكْمُ من حَكَّماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء: النكاح واللعان والقذف والقصاص لأن هذه الأحكام مَزِيَّة على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم مقامه، وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه فيها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، وإذا كتب هذا القاضي بما حَكَمَ به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه، لأنه حاكم نافذ الأحكام، فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام". انتهى كلام ابن قدامة في المغني.
* وقال ابن قدامة في "الكافي":
"واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان، قياسا على قاضي الإمام، وقال القاضي:
يجوز حكمه في الأموال الخاصة، فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام كالحدود".
قلت: وقول ابن المنذر - وسيأتي - يشبه قول أحمد بن حنبل في أنه يجوز التحكيم في جميع الخصومات، ونقل الإجماع على ذلك، وسبق قول صاحب منار السبيل أن حُكْمْ الحَكَم ينفذ في كل ما ينفذ فيه حكم قاضي الإمام ولم يذكر الخلاف في ذلك، فدل على أن هذا هو القول الراجح عند الحنابلة.
* وقصة تحاكم عمر والأعرابي إلى شريح التي ذكرها ابن قدامة، أوردها ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 85، قال:
"قال علي بن الجعد: أنبأنا شعبة، عن سيار، عن الشَّعبي، قال: أخذ عمر فرسا من رجل على سوم، فحمل عليه فعطب، فخاصمه الرجل، فقال عمر:
اجعل بيني وبينك رجلا، فقال الرجل: إني أرضى بشريح العراقي، فقال شريح: أخذته صحيحا سليما فأنت له ضامن حتى ترده صحيحا سليما، قال: فكأنه أعجبه فبعثه قاضيا، وقال: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن من كتاب الله فمن السنة، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك".
* وقال إمام الحرمين الجويني:
"وقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في أن من حَكَّم مجتهدا في زمان قيام الإمام بأحكام أهل الإسلام، فلم ينفذ ما حكم به المحكم؟ فأد قوليه، وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه ينفذ من حكمه ما ينفذ من حكم القاضي الذي يتولى منصبه من تولية الإمام، وهذا قول متجه في القياس، لست أرى الإطالة بذكر توجهه".
* وما ادَّعاه الْمُبطِلُ من بطلان التحاكم لغير القاضي بإجماع الأمة، هو مردود عليه، بل قد ذكر الإمام أبو بكر بن المنذر في كتابه (الإجماع) عكس ما قاله هذا الْمُبطِلُ، فقال:
 "إجماع (254) وأجمعوا على أن ما قضى قاضي غير قاض، جائز إذا كان مما يجوز".
ومعنى قوله (قاضي غير قاض) أي قاضي غير معين من جهة الإمام، وقوله: (إذا كان مما يجوز) أي إذا كان ما حكم به هذا القاضي مما يجوز في الشريعة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة، أو سلطانا، أو نائبا، أو واليا، أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له، حتى من يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر".
* ومن الأدلة على جواز التحكيم وسريان أحكام غير الإمام وقضاته، أن البغاة إذا استولوا على بلد وحكموه بالشرع وجبوا منه الأموال على مقتضى الشرع فإن أحكامهم هذه نافذة ولا ينقضها الإمام العدل إذا ظهر على هذا البلد، فقد قال ابن قدامة:
"إذا نصب أهل البغي قاضيا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل ينفذ من أحكام أهل العدل ويرد منه ما يرد ...".
وقال ابن قدامة أيضا:
"وإن استولوا - أي البغاة - على بلد فأقاموا فيها الحدود، وأخذوا الزكاة والجزية والخراج واحتُسِب به، لأن عليا لم يتتبع ما فعله أهل البصرة وأخذوه، وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري...".
وهذا ما قرره الجويني أيضا في "الكافي" 4/ 152.
فهذه أدلة جواز تحاكم الناس برضاهم إلى رجل مؤهل للحكم، بخلاف قاضي الإمام في دار الإسلام، حيث للمسلمين إمام يحكمهم وشريعة إسلامية تعلوهم، وقد نقل أبو بكر بن المنذر الإجماع على جواز ذلك، خلافا لما زعمه هذا الْمُبطِلُ.
تنبيه: الفرق بين الحَكَم والقاضي من عدة أوجه:
1 - الحَكَم لا يفتقر إلى ولاية من إمام مؤقت، بخلاف القاضي الذي لا يتولى إلا بولاية من الإمام.
2 - الحَكَم لا يحكم بين اثنين من الناس إلا برضاهما وتحاكمهما إليه مختارين، بخلاف قاضي الإمام الذي يحكم بين الخصوم رضوا أم لم يرضوا، وله أن يجبرهم على الحضور إلى مجلس القضاء وإن لم يختاروا، طالما بلغته الدعوة.
3 - الحَكَم ليس له عموم النظر في الخصومات ولا استدامته، إذ إن عموم النظر واستدامته معناه أنه ذو ولاية، فهذا للقاضي المتولي من جهة الإمام.
ويتفق الحَكَم والقاضي في وجوب استيفائهما لشروط القضاء، وفي أن حكمهما مُلزِم للخصوم، إلا أن القاضي يملك سلطة تنفيذ حكمه بالشرطة، والحَكَم قد لا يملك القوة
إن لزمت هذا فيما يتعلق بالحال الأول من هذه المسألة.
أما الحال الثاني: وهو إذا لم يكن للمسلمين إمام يحكمهم ولا قضاء شرعي يتحاكمون إليه، وهذا هو حال أغلب المسلمين اليوم، فلا أقول يجوز لهم، بل أقول يجب عليهم أن يرجعوا إلى من يصلح للقضاء الشرعي منهم ليحكم بينهم بشرع الله فإن لم يجدوا مؤهلا للقضاء اختاروا الأمثل فالأمثل ويحرم عليهم التحاكم إلى القوانين الوضعية الكفرية.
والدليل على صحة هذا: جميع ما ذكرته في الحال الأول، خاصة كلام الشيخ ابن ضويان في كتابه (منار السبيل) وكلام ابن قدامة في المغني، وبالإضافة إلى هذا:
* قال القاضي أبو يعلى:
"ولو أن أهل بلد قد خلا من قاضي أجمعوا على أن قلدوا عليها قاضيا، نظرت: فإن كان الإمام موجودا بطل التقليد، وإن كان مفقودا صح، ونفذت أحكامه عليهم، فإن تجدد بعد نظره إمام، لم يستدم النظر إلا بعد إذنه، ولم ينقض ما تقدم من حكمه، وقد نص أحمد رحمه الله تعالى على أن نفسَين لو حَكَّما عليهما نفذ حكمُه عليهما".
وموضع الاستشهاد هو قوله (إذا كان الإمام مفقودا صح أن يولي الناس عليهم قاضيا) أما قوله (إن كان الإمام موجودا بطل التقليد) فلا ينقض ما ذهبنا إليه في الحال الأول إذ إن تقليد القضاة من حقوق الإمام، وما ذكرناه في الحال الأول هو تحكيم حكم وليس تولية قاض، وقد ذكرت أوجه الاختلاف بين الحكم وبين القاضي أعلاه.
* وقد تكلم إمام الحرمين الجويني عن هذه المسألة بإسهاب فقال:
"وقد حان الآن أن أفرض خلو الزمان عن الكفاة ذوي الصرامة، خلوه عمن يستحق الإمامة - إلى قوله - أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم، ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر، ومراجعة مرموق العصر، كعقد الجُمَع وجر العساكر إلى الجهاد، واستيفاء القصاص في النفس والطرف، فيتولاه الناس عند خلو الدهر - إلى قوله - وإذا لم يصادف الناس قواما بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقدرون عليه من دفع الفساد فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن، عم الفساد البلاد والعباد - إلى قوله - وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهي وذوي العقول والحجا، من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عند مناهيه ومزاجره فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إطلال الواقعات - إلى قوله - ثم كل أمر يتعاطاه الإمام في الأمور المفوضة إلى الأئمة فإذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم، وإن كثر العلماء في الناحية، فالمهم أعلمهم، وإن فرض استواؤهم، ففرضهم نادر لا يكاد يقع،
فإن اتفق فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم، فإن تنازعوا وتمانعوا وأفضى الأمر إلى شجار وخصام فالوجه عندي في قطع النزاع الإقراع، فمن خرجت له القرعة قُدِّم".
* ثم قال الجويني إنه إذا خلا الزمان عن العلماء المجتهدين ولم يبق إلا نقلة مذاهب الأئمة قال:
 "إن الفقيه الذي وصفناه يحل في حق المستفتي محل الإمام المجتهد الراقي إلى رتبة العليا في الخلال المرعية".
* وما ذكره الجويني من تولى نقلة المذاهب للفتوى عند خلو الزمان عن المجتهدين قرره ابن القيم فقال في "إعلام الموقعين" 4/ 196-197:
"إذا تفقه الرجل وقرأ كتابا من كتب الفقه أو أكثر، وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح، فهل يسوغ تقليده في الفتوى؟
فيه للناس أربعة أقوال: الجواز مطلقا، والمنع مطلقا، والجواز عند عدم المجتهد ولا يجوز مع وجوده، والجواز إن كان مطالعا على مأخذ من يفتي بقولهم والمنع إن لم يكن مطالعا.
والصواب فيه تفصيل، وهو أنه إذا كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا، ولا يحل لهذا أن ينسب نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم، وإن لم يكن في بلده أو ناحيته غيره بحيث لا يجد المستفتي من يسأله سواه فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يقدم على العمل بلا علم أو يبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عَمَاه وجهالته، بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها، ونظير مثل هذه المسألة إذا لم يجد السلطان من يوليه القضاء إلا قاضيا عاريا من شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض وولى الأمثل".
فهذه هي أقوال السلف فيما إذا خلا الزمان عن الإمام الأعظم أنه يجب على أهل كل بلد وناحية أن يتحاكموا إلى أهل العلم فيهم من المجتهدين فإن عُدِموا فيحتكموا إلى الأمثل فالأمثل، وخطاب الله بإقامة الأحكام موجه إلى مجموع الأمة قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}، وغيرها،
وينوب الإمام عن الأمة في تنفيذ هذا، كما في الحديث الصحيح "إنما الإمام جُنَّة" وفيه أيضا "فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته" فإذا فُقِد الإمام يرجع الخطاب إلى مجموع الأمة فيقدم الناس من يتحاكمون إليه ممن يصلح لهذا، وقال أحمد بن حنبل: لا بد للناس من حاكم، أفتذهب حقوق الناس؟
وذلك لأن نُصْبَة القضاة من فروض الكفاية لحفظ العدل وإن لم يقم به البعض أثم الكل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا المعنى أوضح إشارة، وهو أن الأحكام والحدود مخاطب بها جميع الأمة، ويقيمها السلطان ذو القدرة، فإن عُدِم السلطان وأمكن إقامتها - إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها -
فهذا هو الواجب، فقال رحمه الله:
"خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا، كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}، وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ}، وكذلك قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرا عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، وقد عُلِمَ
أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد، فقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ}، وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين، و"القدرة" هي السلطان، فلهذا: وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء إن أهل البغي يَنْفُذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامَهم بذلك لم يسقط عنهم القيامُ بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك: لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه، وإذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر، فإذا كان مُضَيِّعا لأموال اليتامى، أو عاجزا عنها: لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه، والأصل أن هذه الواجبات تُقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها مع أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من "باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع بأفسد منه. والله أعلم".
فهذه هي الأدلة الشرعية وأقوال علماء الأمة تثبت صحة تحاكم الناس إلى غير قاضي الإمام ممن يصلح للقضاء زمن قيام الإمام، ونقل ابن المنذر الإجماع على صحة هذا، وها هي أقوالهم تثبت صحة، بل وجوب اتفاق الناس على إقامة الأحكام بينهم ما أمكنهم ذلك زمن غياب الإمام، على أن يُحَكِّموا بينهم من يصلح للقضاء الشرعي الأمثل فالأمثل، وفي هذا رد كاف شاف، وإبطال لما ذكره الْمُبطِلُ، والواجب على المهتمين بالدعوة الإسلامية دعوة المسلمين إلى هذا لا صدهم عنه، فتحاكم المسلمين إلى عالم منهم واجب عليهم ما أمكنهم ذلك وخير لهم في الدنيا والآخرة من التحاكم إلى الطواغيت وأحكامهم الكافرة التي يستطل بها معظم المسلمين الآن فيأكلون أموالهم بينهم بالباطل، وتستباح بها الدماء والفروج.
ولا يحل لأحد دُعي إلى التحاكم إلى الشرع أن يُعرض عنه، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}، وقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَاتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}.
فتحاكم المسلمين إلى الشريعة بعيدا عن المحاكم الكافرة واجب عليهم، ونحن ندعو الناس إليه بقوة، ما أمكن ذلك، وإن تَعَذَّر في الحدود فليكن في الأموال وهكذا، وكل هذا يدخل في تقوى الله المستطاعة للعبد، ويدخل تحت القاعدة الفقهية (الميسور لا يسقط بالمعسور) وصاغها عز الدين بن عبد السلام هكذا:
"إن من كُلف بشيء من الطاعات فَقَدَر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه".
وهذه القاعدة مستفادة من قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم".
ومما يدخل في الاستطاعة إخراج الزكاة وإن عطلها الحكام، وأداء الديات وأروش الجراحات والكفارات وإن لم تحكم بها المحاكم الكافرة، وحُرْمَة الربا، ومما يتعلق بهذا مراعاة القيمة في القروض وفي البيع بالأجل وذلك لأن قيمة الأوراق المالية تتغير كثيرا بالزمن، فالواجب جعل أحد النقدين المعتبرين في الشريعة (الفضة والذهب) أساس هذه التعاملات، فمثلا إذا أقرضك رجل ألف ليرة اليوم وكان جرام الذهب اليوم بمائة ليرة فأنت اقترضت عشرة جرامات، فإذا كان أجل القرض سنة وكان جرام الذهب بعد سنة بمائتي ليرة ورددت إليه الألف ليرة فقد رددت إليه خمسة جرامات وظلمته ظلما فاحشا، والواجب عليك أن ترد إليه ألفي ليرة وعكسه إذا زادت قيمة الليرة ترد إليه أقل من الألف الأصلية كالحساب السابق، وهذا ليس من الربا في شيء بل هو رجوع إلى النقد المعتبر شرعا، فهذه الأوراق لا اعتبار لها شرعا إلا بتقييمها بالذهب أو الفضة، وهو ما يفعله كل مسلم عند إخراج زكاة المال...ولا يُفهم من قولي السابق إباحة ربا البنوك على هذه الأوراق بحجة تعويض نقص القيمة، فهذا ربا مكتمل الأركان محدد الفائدة سلفا حرام حرام، وما سبق من اعتبار القيمة لا يسري على الودائع فهذه ترد كما هي، وقد أشار الشيخ أحمد الزرقا إلى هذه المسألة في كتابه القواعد الفقهية، في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ونَسَبَ هذا القول إلى القاضي أبي يوسف، وبهذا كنت وما زلت أنصح إخواني المسلمين، وأرى أن الله تعالى لا يمن على المسلمين بحكم إسلامي إلا إذا تحاكموا إلى الشرع بالقدر المستطاع في الظروف الحالية فإن سعوا في هذا فلعل الله تعالى أن ينجز وعده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
وفي تحاكم المسلمين إلى الشرع في هذا الزمان فائدة أخرى وهي بقاء هذه الشريعة حية بخلاف ما يريده الطواغيت من إماتة الشريعة وحملتها، وكل هذا يمهد للحكم الإسلامي.
إن هذه القوانين الطاغوتية هي كفر أكبر مُخْرِج لمن وَضَعَها ولمن حَكَمَ بها ولمن تَحَاكَم إليها راضيا مختارا من ملة الإسلام، وهي من أنكر المنكرات، وأضعف الإيمان وهو الإنكار
بالقلب يستوجب على المسلمين مقاطعة هذه القوانين ومحاكمها وقضاتها والبراءة منهم، وأن يمتنعوا عن الدراسة في كليات الحقوق التي تدرس القوانين الكافرة.
رقم (5 - إمارة السفر محددة بأميال، فهي للترتيب لا للسمع والطاعة بكمالهما) وهذا مثل الذي قبله كلام لم يثبته بدليل شرعي، ومعلوم أن السمع والطاعة من مقتضيات أي إمارة صغرت أم كبرت واللغة تدل على ذلك: (الأمير هو ذو الأَمْر، وقد أَمَرَ يأمر بالضم: مختار الصحاح للرازي)، أما أن يحصرها في الترتيب فقط فهذا تقييد منه بلا دليل شرعي، ثم إنه لم يوضح ماذا يقصد بالترتيب؟ فإن كان يقصد - كما يتبادر إلى الذهن - أن عمل أمير السفر هو أن يحدد لمن معه ماذا يفعلون في اليوم الأول مرتبا ثم اليوم الثاني وهكذا، فنقول له إن أَتْبَاع الأمير إن نَفَّذوا ما رَتَّبه لهم فهم بذلك قد سمعوا له وأطاعوا، فآل الأمر إلى أن مقتضى الإمارة هو السمع والطاعة.
رقم (6 - أما أنها (عهد) فهذا لم يكن من منهاج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بل كان واقعهم خلاف ذلك تماما ... الخ) هنا أرد - بعون الله تعالى - على إنكاره للبيعة التي تأخذها هذه الجماعات من أتباعها، حيث أنكر شرعية هذه البيعات وعَدَّها من البدع، وأراد بذلك نقد جماعة معينة استخدمت البيعة والسمع والطاعة في تسخير أتباعها وعصمة أمرائها، ولكني أقول إن البيعة حق والسمع والطاعة حق، وسوء استخدام الحق يجب ألا يجعلنا ننكره، بل الواجب إنكار إساءة استخدامه.
وسأذكر فيما يلي بعض ما قاله في إنكار هذه البيعات، ثم أرد عليه إن شاء الله تعالى:
* قال الْمُبطِلُ في كتابه "البيعة بين السنة والبدعة" (ص22):
"ومما يؤكد بطلان البيعات الاستثنائية الزائدة على بيعة أمير المؤمنين - ولو في غيابه - هو تنصيص العلماء رحمهم الله تعالى أنه يشترط في البيعة: أن يجتمع أهل الحل والعقد، ويعقدوا الإمامة لمن يستجمع شرائطها" أ ه.
* وقال (ص23): "مما سبق علمنا شيئين مهمين: 1- لا تكون البيعة إلا لأمير المؤمنين فقط 2- والطاعة ناشئة عن البيعة التي هي له وحده حسب. فعلى ذلك تبطل جميع البيعات التي تكون لأي إنسان - ما لم يكن إماما - على أي صورة، سواء في وجود الإمام أم في غيابه لواحد أم لأكثر" وقال في هامش نفس الصفحة:
"فالواجب على من تلبس بمثل هذه البيعات المبتدعة أن يتركها، ويفسخها فإنها باطلة، حرصا على دينه واتباعه" أ ه.
* وقال (ص32): "إن سائر كلام المتقدمين من أهل العلم والفقه كان حول بيعة الخليفة المسلم، ولم يتطرق أحد منهم - فيما اطلعت - إلى هذه البيعات الاستثنائية التي تعطي لغير إمام المسلمين ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل!!" أ ه.
* وقال (ص33): "أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية؟ وهل نستطيع أن نصل بعقولنا وأهوائنا إلى خير نظنه فات صالحي هذه الأمة من السلف
والأئمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصدق النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فمثل هذه البيعات الاستثنائية التي لم ترد في نص قرآني أو حديث نبوي، أو فعل أحد من السلف الصالح، تعد بدعة محدثة" أ ه.
* وقال (ص36): "ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى 28/ 18: من أنه إذا كان مقصودهم بهذا الاتفاق والانتماء والبيعة التعاون على البر والتقوى، فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره، دون ذلك الاتفاق، وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان، فهذا قد حرمه الله ورسوله، فما قصد بهذا من خير ففي أمر الله ورسوله بكل معروف، استغناء عن ذلك الاتفاق، وما قصد بهذا من شر فقد حرمه الله ورسوله!!" أ ه.
* وقال (ص37): نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: ليس لأحد أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريد، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا واليا، ومن خالفهم عدوا باغيا. أ ه.
* وقال (ص 39 ، 40): "أما إنها (عهد) فهذا لم يكن من منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بل كان واقعهم خلاف ذلك تماما، فقد روى أبو نعيم الحافظ الأصبهاني  - في "حلية الأولياء" 2/ 204 - بإسناده الصحيح إلى مُطَرِّف بن عبد الله بن الشخير قال: "كنا نأتي زيد بن صوحان، وكان يقول يا عباد الله أكرموا، وأجملوا، فإن وسيلة العباد إلى الله بخصلتين: الخوف والطمع، فأتيته ذات يوم وقد كتب كتابا فنسقوا كلاما من هذا النحو: (إن الله ربنا، ومحمدا نبينا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا، وكنا له، ومن خالفنا كانت يدنا عليه، وكنا وكنا)، قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلا رجلا، فيقولون أقررت يا فلان؟..حتى انتهوا إليّ، فقالوا: أقررت يا غلام؟ قلت: لا، قال: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول يا غلام؟ قال: قلت: إن الله قد أخذ عَلَيَّ عهدا في كتابه، فلن أحدث عهدا سوى العهد الذي أخذه الله عز وجل!! قال: فرجع القوم من عند آخرهم، ما أَقَرَّ بِهِ أحد منهم: قال: قلت لمطرف: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثين رجلا".
فانظر - رحمك الله - إلى واقعهم، وإلى أحوال قلوبهم في قبول الحق والانقياد إليه وإلى رفضهم أي أمر - ولو كان ظاهره صدقا وحقا وعدلا - إذا لم يكن واردا - بكيفيته - في كتاب الله سبحانه، أو ثابتا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإذا كان مُفَرِّقا للأمة أي تفريق، ولو صَغُرَ!" أ ه.
* ثم ختم كتابه بنصيحة للدعاة قائلا في (ص 41): "إن هذا البحث - على وجازته - يعد فرصة للدعاة لكي ينتبهوا بعد غفلة، ويستيقظوا بعد سبات، ولكي لا يقدموا على أي عمل أو قول إلا بعد علم، وبينة، ودراية، وتثبت" أهـ.
هذا مجمل ما كتبه، ولقد أطال في غير طائل وأتى بغير الصواب، ولم يتثبت ولم يتبين كما أخذ على نفسه في أول كتابه (ص5)، وكما نصح غيره في آخر كتابه (ص41).
والحق أن ما ذكرتُه في هذا الفصل - يعني في كتاب "العمدة في إعداد العدة" - من مسائل بَدءًا من مشروعية العهد إلى حكم ناكثه، فيه رد كاف على كلام مؤلف كتاب (البيعة بين السنة والبدعة)، ومع ذاك سوف أجمل ما سبق في عدة أمور:
أولا: إن الإمارة على الجماعات الإسلامية التي قامت على التعاون على البر والتقوى هي إمارة شرعية صحيحة، كما سبق تفصيل هذا في الباب الثالث مع الرد على شبهة
المؤلف حول الإمارة.
ثانيا: إذا ثبت شرعية هذه الإمارة، فيجب على كل من قبلها السمع والطاعة للأمير في غير معصية وإن لم يعاهده على هذا، إذ إن هذا يجب بالشرع ابتداء بدون عهد، وقد سبق بيان هذا في أول الفصل وذكرت هناك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب طاعة ولاة الأمور وإن لم يعادهم الإنسان أو يحلف لهم، فراجعه هناك - نقلا عن مجموع الفتاوى ج 35 ص 9 - 10
-، وذكرت كذلك - من قبل - قوله (أولي الأمر منكم) يدخل فيهم كل متبوع، قال (وكل من كان متبوعا فهو من أولي الأمر)، ويدخل في هذا أمراء الجماعات المشار إليها.
ثالثا: ذكرت في مسألة (فائدة العهد والغرض منه) وهي الثانية من هذا الفصل، أن العهد له فائدتان:
الأولى: توكيد ما وجب بالشرع ابتداء وهي طاعة ولاة الأمور ومعاونتهم على الحق ومناصحتهم إلى غير ذلك مما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والثانية: الالتزام بشروط أخرى لم يوجبها الشرع ابتداء وإنما تجب وفاءً بالعهد ما لم تخالف الكتاب والسنة، وذكرت هناك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الشأن نقلا عن "مجموع الفتاوى" 29/ 341، 345 ومن المواضع التي نص شيخ الإسلام على أنها تجب على العبد للأمرين، قوله "وكتعاقد الناس على العمل بما أمر الله به ورسوله"، وهذه العبارة بالذات تنطبق تماما على الجماعات التي نتحدث عنها، فإذا قامت جماعة بغرض نصرة الدين، فيجب على كل مسلم معاونة هذه الجماعة، عاهدها أم لم يعادها، إذ إن هذا واجب بالشرع ابتداء لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، فإذا عاهدها تأكد هذا الوجوب لوجوب الوفاء بالعهد {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا}.
وكذلك السمع والطاعة واجبان على كل فرد في مثل هذه الجماعات لأُولِي الأمر منهم، عاهد على هذا أم لم يعاهد، فإن عاهد تأكد الوجوب.
رابعا: أن العهود جائزة بين المسلمين على الطاعات، وما ذكرته في مسألة (مشروعية العهد) يغني عن الإعادة هنا، حيث ذكرت أدلة المشروعية من القرآن والسنة وسيرة الصحابة رضي الله عنهم.
خامسا: أنه يجوز أن تُسَمَّى هذه العهود بيعات، كما ذكرته في المسألة الخامسة من هذا الفصل وهي (هل يجوز تسمية هذا العهد بيعة؟) وأن هذا مما يمكن إدخاله في إجماعات
الصحابة، لفعل عِكرمة يوم اليرموك وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه، ثم فعل قيس بن سعد يوم صِفِّين، إلى آخر ما ذكرته هناك، مما يدل على جواز هذه التسمية فيسقط كلام المؤلف في (ص32) حيث قال: "ولم يتطرق أحد منهم - فيما اطلعت - إلى هذه البيعات الاستثنائية" وفي (ص 33) حيث قال: "أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية" ولاحظ أنني قلت إن سيرة الصحابة تدل على جواز وليس وجوب هذه التسمية، ولذلك ورغم جواز تسمية هذه العهود بيعات، إلا أنني أرى ألا تسمى عهود الجماعات الآن بالبيعة وأن يُقْتَصَر على تسميتها بالعهد حتى لا تلتبس ببيعة الخليفة، وحتى يظل هذا الجيل من المسلمين مدركا أنه ليست في عنقه بيعة لإمام المسلمين، فيسعوا في هذا الشأن.
ومن باب الرد على كلام المؤلف في (ص32، 33، 39) وقوله إن هذه البيعات لم تكن من منهج السلف الصالح، سأذكر فيما يلي بعض البيعات التي وقعت بين المسلمين في القرون الثلاثة الخيرية من هذه الأمة، ليعلم المسلم أن العهد أو البيعة على الطاعات ورأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، كان أمرا متعارفا عليه بين السلف الصالح من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ومن ذلك:
1 - مبايعة الصحابي عِكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه - لأربعمائة من وجوه المسلمين على الموت يوم اليرموك، وقد سبق ذكرها والتعليق عليها. "البداية النهاية" 7/ 11.
2 - مبايعة الصحابي قيس بن سعد لأربعين ألفا على الموت يوم صِفِّين، وقد سبق ذكرها. "فتح الباري" 13/ 63.
3 - مبايعة أهل الكوفة للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سنة 61ه- للخروج على خليفة الوقت يزيد بن معاوية، وقد أرسل الحسين ابن عمه مُسلمًا بن
عقيل لأخذ البيعة له فبايعه ثمانية عشر ألفا. انظر "البداية والنهاية" 8/ 152 وما بعدها.
4 - مبايعة أهل المدينة للصحابي عبد الله بن حنظلة سنة 63 ه- للخروج على يزيد بن معاوية، فكانت وقعة الحَرَّة، وقد سبق ذكرها. "البداية والنهاية" 8/ 217،
و "فتح الباري" 6/ 118 - 13/ 68.
5 - طلب عبد الله بن الزبير الصحابي البيعة لنفسه بعد موت يزيد بن معاوية، وقد بايعه جميع الأمصار إلا الأردن ومن بها من بني أمية وعلى رأسهم المروان بن الحكم فبايعوا مروان وحاربوا أهل الشام ثم مصر ثم العراق إلى أن انتهى الأمر بقتل ابن الزبير سنة 73 ه، وقد سمي ابن الزبير بأمير المؤمنين ودامت خلافته من 64 ه إلى سنة 73 ه.
"فتح الباري" 13/ 69 و 194، و "البداية والنهاية" 8/ 238 وما بعدها.
6 - وذكر ابن كثير أن أهل دمشق لما مات خليفة الوقت معاوية بن يزيد سنة 64ه، بايعوا الضحاك بن قيس على أن يُصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس على إمام. "البداية والنهاية" 8/ 239.
7 - وذكر ابن كثير في أحداث سنة 64 ه قال: "وفيها اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صرد - وهو صحابي جليل كما قال ابن كثير - بالكوفة، وتواعدوا النخيلة ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى أن قال - فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صرد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا وتواعدوا النَّخِيلةَ. "البداية والنهاية" 8/ 247.
قلت: لم يكن الشيعة سموا إذ ذاك بالرافضة، ولم يسموا بذلك إلا في زمن زيد بن عَلِيّ.
8 - خروج عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج الثقفي ثم الخليفة عبد الملك بن مروان (81 - 82 ه) وكان ابن الأشعث على رأس الجيش للحجاج بفارس، فنقم منه أمورا، قال ابن الأشعث لمن معه: "اخلعوا عدو الله الحجاج - ولم يذكر خلع عبد الملك - وبايعوا لأميركم عبد الرحمن بن الأشعث فإني أشهدكم أني أول خالع للحجاج، فقال الناس من كل جانب: خلعنا عدو الله الحجاج ووثبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه عوضا عن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان - إلى أن قال - فلما توسطوا الطريق قالوا: إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله وخلع أئمة الضلال وجهاد الملحدين. وقال ابن كثير: ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب. وقال ابن كثير: وجعل الناس يلتقون على ابن الأشعث من كل جانب، حتى قيل إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل. وقال ابن كثير: ودخل ابن الأشعث الكوفة فبايعه أهلها على خلع الحجاج وعبد الملك بن مروان. وقال ابن كثير: وكان جملة من اجتمع مع ابن الأشعث مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم. وقال ابن كثير: وجعل ابن الأشعث على كتيبة القراء - العلماء - جبلة بن زحر، وكان فيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وكميل بن زياد - وكان شجاعا فاتكا على كبر سنه -
وأبو البحتري الطائي وغيرهم، ومما قاله الشعبي: قاتلوهم على جورهم واستدلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة. "البداية والنهاية".
9 - خروج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 121 ه على خليفة الوقت هشام بن عبد الملك، وزيد هو الذي تنسب إليه الطائفة الزيدية من الشيعة، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 9/ 237: بايعه على ذلك أربعون ألفا من أهل الكوفة.
10 - خروج يزيد بن الوليد على ابن عمه خليفة الوقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة 162 ه، قال ابن كثير: "قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخَلاَعته ومَجَانته وفسقه وما ذُكر عن تهاونه بالصلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها، فإنه لم يزدد في الخلافة إلا شرا".
وقال: "فقام يزيد بن الوليد في خلعه وبايعه الناس على ذلك، وكثرت الجيوش حوله كلهم قد بايعه بالخلافة، وطلب الوليد بن يزيد فقتله".
11 - بيعة معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال ابن كثير: "وفي هذه السنة 127 ه خرج بالكوفة معاوية بن عبد الله، فدعا إلى نفسه وخرج إلى محاربة أمير
العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فجرت بينهما حروب يطول ذكرها. "البداية والنهاية"10/ 25.
12 - قيام دولة العباسيين منذ بدء دعوتهم سنة 100 ه إلى بدء خلافة السفاح أول خلفائهم 132 ه قال ابن كثير: "في سنة 118 ه: وفيها وفاة علي بن عبد الله بن عباس، وقد بايع كثير من الناس لابنه محمد بالخلافة قبل أن يموت عَلِيٌّ هذا قبل هذه السنة بسنوات ولكن لم يظهر أمره حتى مات فقام بالأمر من بعده ولده عبد الله أبو العباس السفاح وكان ظهوره في سنة 132 ه". "البداية والنهاية" 9/ 321.
فهنا الناس قد بايعوا محمدًا بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في وجود خلافة أموية شرعية.
ولما توفي محمد بن علي سنة 125 بن عبد الله أوصى من بعده لابنه إبراهيم، فكتب إبراهيم لأبي مسلم الخرساني سنة 129 بأن يظهر الدعوة فأقبل الناس من كل جانب إلى أبي مسلم وكثر جيشه، ثم قُتِل إبراهيم سنة 132 وأوصى من بعده لأخيه أبي العباس السفاح، وذلك في خلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فدخل أبو العباس الكوفة وسلموا عليه بالخلافة وصعد المنبر وبايعه الناس وهو على المنبر، ثم انتدب عمه عبد الله بن عَلِي لقتال الخليفة مروان بن محمد إلى أن قُتِل مروان واستقرت الخلافة لأبي العباس السفاح سنة 132. ومما هو جدير بالذكر أن دعوة بني العباس لدولتهم استمرت 32 سنة أو أكثر أثناء خلافة بني أمية، وكانوا يأخذون البيعة من الناس رغم وجود خلافة أموية شرعية، ومما يجدر بالذكر كذلك أنهم أخذوا البيعة من الناس لفرد مُبْهَم وهو (الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم) انظر "البداية والنهاية" 10/ 31.
ومعناه من يرضى عنه آل محمد ويتفقون عليه، وذلك مَنْعا للشقاق بين العلويين والعباسيين ليصيروا يدا واحدة على بني أمية.
13 - بيعة أبي محمد السفياني. قال ابن كثير في 132ه: "وتفاقم الأمر على عَلَي عبد الله - بن علي عم الخليفة السفاح - وذلك أن أهل قِنسِرِّين تراسلوا مع أهل حمص وتزمروا واجتمعوا على أبي محمد السفياني وهو أبو محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فبايعوه بالخلافة وقام معه نحو من أربعين ألفا فقصدهم عبد الله بن علي فالتقوا بمرج الأخرم، فاقتتلوا مع مقدمة السفياني وعليها أبو الورد فاقتتلوا قتالا شديدا ..."البداية والنهاية" 10/ 52.
14 - بيعة عبد الرحمن الداخل الخليفة الأموي بالأندلس في زمن العباسيين، قال ابن كثير في سنة 138ه "وفيها كانت خلافة الداخل من بني أمية إلى بلاد الأندلس، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وكان قد دخل إلى بلاد المغرب فرارا من عبد الله بن علي، فاجتاز بمن معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانية والمضرية، فبعث مولاه بدرا إليهم فبايعوه، ودخل بهم ففتح بلاد الأندلس، واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وقتله، وسكن عبد الرحمن قرطبة واستمر في خلافته في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة 172ه". "البداية والنهاية" 10/ 74.
15 - بيعة محمد النفس الزكية وخروجه على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور سنة 145ه قال ابن كثير: "ثم دخلت سنة 145ه، فمما كان فيها من الأحداث مخرج محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة". "البداية والنهاية" 10/ 82 - طبعة دار الفكر.
وقال ابن كثير: "وأصبح محمد بن عبد الله بن حسن وقد استظهر على المدينة ودان له أهلها، فصلى بالناس الصبح وقرأ فيها سورة {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} وأسفرت هذه الليلة عن مستهل رجب من هذه السنة، وقد خطب محمد بن عبد الله أهل المدينة في هذا اليوم، فتكلم في بني العباس وذكر عنهم أشياء ذمهم بها، وأخبرهم أنه لم ينزل بلدا من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل". "البداية والنهاية" 10/ 84.
وقد روى ابن جرير عن الإمام مالك أنه أفتى بمبايعته، فقيل له إن في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعة. فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك،
ولزم مالك بيته".
وقال ابن كثير: إن أبا جعفر المنصور الخليفة كتب إليه قال: (فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، إن أنت رجعت إلى الطاعة لأؤمنك ومن اتبعك.
وقال ابن كثير: إنه لما أرسل المنصور جيشه لقتال محمد، صعد محمد بن عبد الله على المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد وكانوا قريبا من مائة ألف".
16 - بيعة إبراهيم بن عبد الله بن حسن (أخي محمد النفس الزكية) وكان يدعو في السر إلى أخيه فلما قُتل أخوه (محمد النفس الزكية) 145 ه أظهر الدعوة إلى نفسه، وقَدِمَ البصرة وبايعه فئام من الناس، وجعل الناس يقصدون من كل فج لمبايعته ودانت له البصرة والأهواز وفارس والمدائن وأرض السواد، وخرج من البصرة في مائة ألف مقاتل قاصدا الكوفة لقتال جيش الخليفة أبي جعفر المنصور. "البداية والنهاية" 10/ 91 - 94.
وقال ابن كثير عن محمد وأخيه إبراهيم: "قد حُكِيَ عن جماعة من العلماء والأئمة أنهم مالوا إلى ظهورهما".
وممن مال إلى ظهور محمد: الإمام مالك بالمدينة كما سبق، وممن مال إلى ظهور إبراهيم: الأمام أبو حنيفة وشعبة بن الحجاج وهشيم وكلاهما من أئمة الحديث.
17 - بيعة أحمد بن نصر الخزاعي سنة 231 للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عموما، ثم مبايعته للخروج على الخليفة الواثق لفسقه وبدعته، قال ابن كثير:
"ثم دخلت سنة 231، وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه - إلى قوله - وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشُّطار والدُّعار في غيبة المأمون عن بغداد كما تقدم ذلك، وبه تُعرف سويقة نصر بغداد، وكان
أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلا ونهارا، اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولا سنة ولا قرآن، فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها، فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداد وانتصب للدعوة إلى
 أحمد بن نصر هذا رجلان وهما أبو هارون السراج يدعو الجانب الشرقي، وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة، وجماعات غزيرة، فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه هو وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها". "البداية والنهاية" 10/ 303-304.
قلت: انظر أيها القارئ الكريم إلى هذه البيعات التي ذكرتها، والتي كان يدخل فيها ألوف الناس، والتي استحسنها كثير من التابعين ودخلوا فيها، وحَرَّض الناس عليها الإمامان
مالك وأبو حنيفة، ثم انظر إلى كلام الْمُبطِلُ مؤلف كتاب "البيعة بين السنة والبدعة" (ص 32 - 33)، وقوله: "لم يتطرق أحد من المتقدمين إلى مثل هذه البيعات" وقوله:
"أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية؟".
وهذه البيعات التي ذكرتها آنفا منها:
1 - بيعات على الجهاد والاستشهاد: كمبايعة عكرمة بن أبي جهل وقيس بن سعد لمن معهما، وهما صحابيان رضي الله عنهما.
2 - بيعات على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كمبايعة أهل المدينة لأمرائهم في وقعة الحَرَّة، وبيعة سليمان بن صرد، وبيعة أحمد بن نصر الخزاعي.
3 - بيعات على القيام بأمر طائفة من المسلمين حتى يظهر خليفة: كمبايعة أهل دمشق للضحاك بن قيس.
4 - بيعات على المنازعة في الخلافة خروجا على أئمة الجور: كبيعات الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وابن الأشعث وزيد بن علي ويزيد بن الوليد ومعاوية بن عبد الله بن جعفر والعباسيين وأبي محمد السفياني وعبد الرحمن الداخل ومحمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم.
والأنواع الثلاثة الأُوَل من هذه البيعات ليست بيعات خلافة، وهي التي سماها مؤلف كتاب البيعة (البيعات الاستثنائية) ونَفَى وقوعها في السلف، وأما النوع الرابع، فهي أيضا ليست بيعات خلافة بل بيعات لطلب الخلافة ومنازعة خليفة الوقت، ولا تعتبر أي بيعة من هذه بيعة خلافة إلا باسقرار الخلافة لطالبها ودخول جمهور المسلمين في بيعته، أما قبل ذلك فالبيعة الشرعية هي بيعة خليفة الوقت المخروج عليه، ومن الخارجين الذين استقرت لهم الخلافة عبد الله بن الزبير ويزيد بن الوليد والعباسيين وعبد الرحمن الداخل.
فبيعات كل هؤلاء تدخل تحت اسم (البيعات الاستثنائية) قبل استقرار الخلافة لهم، سواء منهم من استقرت له أو لم تستقر.
وقد يقول قائل: ما حكم خروج هؤلاء الخارجين على الخلفاء؟ قلت: الخروج على الحاكم الكافر لا خلاف في وجوب على من قدر عليه، أما الفاسق أو الظالم وهو الحال في معظم البيعات المذكورة أعلاه، كان فيه خلاف بين سلف الأمة فمنهم من أوجبه لعموم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من نهى عنه لأحاديث "من كره من أميره شيئا فليصبر" فهذه البيعات المذكورة أعلاه كانت من باب الأخذ بعموم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم حدث بعد هذه الفتن أن استقر رأي جمهور أهل السنة والجماعة على الأخذ بالصبر على أئمة الجور ومنع الخروج عليهم، وقد ذكر هذا الخلاف القديم وما استقر عليه الرأي الإمام النووي فقال:
"قال القاضي عياض: فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب، وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك، قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع وقد رَدَّ عليه بعضُهم هذا بقيام الحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث وتأول هذا القائل قوله أن لا ننازع الأمر أهله في أئمة العدل وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق بل لما غَيَّر من الشرع وظَاهَر من الكفر، قال القاضي: وقيل إن هذا الخلاف كان أولا ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله أعلم".
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الصبر على أئمة الجور وعدم الخروج عليهم هو ما استقر عليه رأي أهل السنة بعد الخلاف القديم في هذه المسألة.
قلت: وقد صارت هذه المسألة تُدوَّن ضمن اعتقاد أهل السنة والجماعة كما هو مثبت في العقيدة المتداولة، قال صاحب العقيدة الطحاوية:
"ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة".
وقد نقل ابن حجر عن ابن بطال الإجماع على هذا أيضا، وقال ابن حجر: "ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وَجَب، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه".
ومع هذا فقد أخذ ابن حزم - "المحلى" 9/ 362 - بالقول بعموم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنها ناسخة للأحاديث الآمرة بالسكوت.
وهو محجوج بالإجماع المنعقد على الصبر على أئمة الجور، وقوله بالنسخ يفتقر إلى معرفة التاريخ، والصواب هو القول بالعام والخاص وأن الخاص (وهي أحاديث الصبر على أئمة الجور) مقدم على العام (وهي عموم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حسب القواعد الأصولية.
سادسا: نقل مؤلف كتاب "البيعة بين السنة والبدعة" كلاما مبتورا لشيخ الإسلام ابن تيمية، فنقل عن شيخ الإسلام ما يؤيد رأيه وهو أن هذه العهود بدعة باطلة وترك من كلام شيخ الإسلام ما يخالف رأيه، ولم يكتف المؤلف بأن يأخذ ما يريد ويدع ما يريد من كلام ابن تيمية، بل تجاوز هذا، فقد تصرّف فيما نقله المؤلف فيما نقله عن شيخ الإسلام بالحذف والإضافة ليوهم القارئ أن شيخ الإسلام ينكر تعاهد الناس واتفاقهم على التعاون على البر والتقوى، وهذا التحريف في نقل فتاوى العلماء ليس من الأمانة العلمية في شيء.
فقد نقل في (ص 36) من كتابه كلاما لشيخ الإسلام من المجلد 28 ص 18، تَصَرَّف فيه بالحذف والإضافة ليطَوِّعه لرأيه، وكان شيخ الإسلام رحمه الله يتحدث عن تعصب التلاميذ لمعلميهم في صورة شد الوسط وغيره، فنهى عن ذلك.
قال ابن تيمية: "فإن كان المقصود بهذا الشد والانتماء التعاون على البر" إلا أن المؤلف كتب هذه العبارة هكذا (من أنه إذا كان مقصودهم بهذا الاتفاق والانتماء والبيعة التعاون على البر)، وكما ترى فقد أدخل المؤلف كلمة (البيعة) ضمن كلام ابن تيمية لينصر رأيه، فَقَوَّل ابن تيمية رحمه الله ما لم يَقله، وكذلك حذف كلمة (الشد) وأضاف كلمة (الاتفاق).
كذلك فقد نقل المؤلف في (ص 37 ) من كتابه، أن شيخ الإسلام رحمه الله قال: ليس لأحد أن يقول يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريد، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه بل من فعل هذا كان من جنس جنكز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا واليا، ومن خالفهم عدوا باغيا.
وهذا النقل أيضا يوهم القارئ أن شيخ الإسلام ينكر تعاهد الناس على أعمال البر، والحق أن كلام شيخ الإسلام السابق ورد في معرض جوابه عن سؤال جاء فيه (وهل للمبتدئ أن يقوم وسط جماعة من الأستاذين والمتعلمين ويقول: يا جماعة الخير، أسأل الله تعالى وأسألكم أن تسألوا فلانا أن يقبلني أن أكون له أخا أو رفيقا أو غلاما أو تلميذا أو ما أشبه ذلك، فيقوم أحد الجماعة فيأخذ عليه العهد ويشترط عليه ما يريده ويشد وسطه بمنديل أو غيره، فهل يسوغ هذا الفعل أم لا؟".
فأجاب شيخ الإسلام ببيان ما لا يجوز من هذا، وهو شد الوسط والتعصب للمُعَلم بحق أو بباطل وهو ما نقله مؤلف كتاب (البيعة)، وكذلك بَيَّن شيخ الإسلام ما يجوز من هذا، وهو أن العهد جائز بين المعلم والتلميذ وذكر صيغة لهذا العهد، وهو ما لم ينقله مؤلف كتاب (البيعة) لأنه لو نَقَل هذا الجزء من جواب شيخ الإسلام لهدم كتابه من أساسه، وأهل العلم ينقلون ما لهم وما عليهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله عن العهد بين المعلم وتلميذه: "ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن تُوالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتُعاون على البر والتقوى ولا تُعاون على الإثم والعدوان، وإذا كان الحق معي نصرت الحق، وإن كنت على باطل لم تنصر الباطل، فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى، الذين يريدون أن يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا" "مجموع الفتاوى" 28/ 21.
وقد ذكرت كلامَه هذا من قبل في (مشروعية العهد)، فراجعه هناك.
وهنا فائدة لطيفة: وهي أن جواب شيخ الإسلام عن جواز العهد وحرمة الانتقال من معلم إلى غيره بلا سبب، هو متعلق بالتدريب العسكري، حيث أن السؤال كان عن معلم الرماية وتلميذه، وَرَدَ في السؤال "وإذا عَلَّمَ رجل رجلا الرمي أو الطعن وغيرها من آلات الحرب والجهاد في سبيل الله تعالى وجحد تعليمه، وانتقل إلى غبره وانتمى إليه، هل يأثم بذلك أم لا؟ 
فأجاب رحمه الله بما سبق مُبَيِّنا ما يجوز وما لا يجوز.
وأورد شيخ الإسلام رحمه الله في أكثر من موضع ما يدل على جواز العهود بين الناس على الطاعات، وبَيَّن ما يجوز من الشروط في هذه العهود، وقد ذكرتُ كلامَه في هذا الشأن في مسألة (فائدة العهد والغرض منه)، خاصة قوله "والذي يوجبه الله على العبد قد يوجبه ابتداء، كإيجابه الإيمان والتوحيد على كل أحد، وقد يوجبه، لأن العبد التزمه وأوجبه على نفسه، ولولا ذلك لم يوجبه، كالوفاء بالنذر للمستحبات، وبما التزمه في العقود المباحة: كالبيع والنكاح والطلاق، ونحو ذلك، إذ لم يكن واجبا، وقد يوجبه لأمرين، كمبايعة الرسول على السمع والطاعة له، وكذلك مبايعة أئمة المسلمين وكتعاقد الناس على العمل بما أمر الله به ورسوله".
فذكر رحمه الله أن "تعاقد الناس بما أمر الله به ورسوله" يجب عليهم القيام به لأمرين: لوجوبه بالشرع ابتداء ولوجوبه بالتعاقد والتعاهد عليه، فأي كلام أوضح من هذا.
وذكر في الشروط أن هذا الشرط ينطبق على (عقود المشايخ وعقود المتآخين).
سابعا: وما نقله مؤلف كتاب (البيعة) عن أبي نعيم في (الحلية) من رفض مطرف بن عبد الله لمثل هذا الكلام الذي عرضوه عليه، فهذا الكلام الذي كتبوه باطل وحَرِيٌّ به أن يُرفَض، فهو يشبه ما أنكره ابن تيمية رحمه الله من التناصر بحق أو باطل، فهم قالوا: (ومن كان معنا كنا وكنا، ومن خالفنا كانت يدنا عليه) هذا باطل، والصواب أن يقال:
(ومن كان على الحق نصرناه، ومن خالف الحق كانت يدنا عليه) فشرطهم كان مخالفا للكتاب والسنة فلا يجوز العهد عليه.
أما أن يريد المؤلف الاستدلال برفض مطرف لهذا العهد على بطلان مبدأ العهود بين الناس، فهذا لا يستقيم بعد ما ذكرته من أدلة في (مشروعية العهد) من كتابٍ وسنةٍ وسيرة الصحابة فكيف ينتهض فعل أحد التابعين - إن صح الاستدلال به - في وجه هذه الأدلة؟
وإذا كان قول الصحابي يُرَدُّ إذا خالف الكتاب والسنة، فكيف بفعل أحد التابعين؟، وقد ذكرت أن صيغة العهد التي عُرِضَت على مطرف باطلة، ويمكن أن يؤول رفضه من هذا الوجه.
ويكفينا أن مؤلف كتاب (البيعة) لم يجد دليلا يعضد رأيه من القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة وسيرتهم، فلجأ إلى فعل لأحد التابعين مُحْتَمَلٍ للتأويل، ولم يكفه هذا فلجأ
إلى التصرف في كلام ابن تيمية رحمه الله بالحذف والإضافة والكتمان لينصر رأيه.
ولا ينبغي لأحد أن يفهم من كلامي السابق أنني أنكر الاستدلال بأقوال التابعين، بل أرى الاستدلال بها ما لم تخالف كتابا أو سنة أو قول صحابي أو تابعي، فكيف وقول مطرف - هنا - يخالف الأدلة التي ذكرتها في (مشروعية العهد)؟ هذا إذا حُمل كلامه على إنكار العهود بإطلاق.
وعن الأخذ بأقوال التابعين، قال ابن القيم "إعلام الموقعين" 4/ 156:
"اختلف السلف في ذلك، فمنهم من يقول: يجب اتِّباع التابعي فيما أفتى به ولم يخالفه فيه صحابي ولا تابعي، وهذا قول بعض الحنابلة والشافعية، وقد صرح الشافعي في موضع بأنه قال تقليدا لعطاء، وهذا من كمال علمه وفقهه رحمه الله، فإنه لم يجد في المسألة غير قول عطاء، فكان قوله عنده أقوى ما وجد في المسألة...".
قلت: وفي مسألة الاحتجاج بقول التابعي كلام آخر مثل العمل عند اختلاف أقوال التابعين وكذلك إذا خالف قول التابعي القياس، فيُرجع إلى كتب الأصول في هذا.
وهناك كلام آخر ذكره مؤلف كتاب (البيعة بين السنة والبدعة) يستوجب الرد عليه وبيان خطئه فيه، إلا أنني سأعرض عنه لعدم تعلقه بموضوعنا، ومن هذا قوله في (ص40)
إن السلف يرفضون أي أمر ما لم يكن واردا بكيفيته في الكتاب والسنة، ولا شك أن هذا افتراء على السلف، فجمهور السلف يعتبرون الإجماع والقياس بعد الكتاب والسنة، وقوله هذا (بكيفيته) لم يقل به غلاة المذهب الظاهري الذي يعده كثير من السلف بدعة.
ومثل قوله: إن البيعة تبطل إذا لم يجتمع أهل الحل والعقد ويعقدوا الإمامة لمن يستجمع شرائطها (ص22) وهذا الكلام في تعميمه خطأ، إذ إن عقد أهل الحل والعقد هو أحد
وسائل عقد الإمامة، وهناك العهد من الخليفة السابق (الاستخلاف)، وهناك الغلبة والاستيلاء ومَنْ تَغَلَّب وتَسَمَّى بأمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يَبِيتَ
ولا يراه أميرا للمؤمنين كما قال أحمد بن حنبل.
هذا ما يتعلق بالرد على شبهات مؤلف كتاب (البيعة بين السنة والبدعة)، وما رددت عليها إلا لإزالة التلبيس الذي قد يُصاب به البعض بقراءة مثل هذا الكتاب، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى تعاقد المسلمين وتعاهدهم بالمواثيق المغلظة من أجل نصرة دين الله وإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله كما يحب ربنا ويرضى.
[2] - قد يقول قائل إن حديث مؤتة لا ينطبق على حالنا الآن، ففي مؤتة كان الإمام (النبي صلى الله عليه وسلم) غائبا، فلما رجعوا إليه صَوَّبَ صنيعهم، أما اليوم فلا إمام
البتة، فلا تصح إمارة هذه الجماعات لافتقاد الإمام، ونحن نؤكد صحة ما ذهبنا إليه من الاستدلال بحديث غزوة مؤتة وتأمير الصحابة لخالد بن الوليد، إذ إن العلة المشتركة بين الحالتين هي اجتماع طائفة من المسلمين على عمل مشترك وهو الجهاد بِمعزل عن الإمام، سواء كان الإمام غائبا أم معدوما، ففي كلا الحالين هو غائب عن صنيعهم، والمستفاد من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك وهو تقريره لفعلهم (السنة التقريرية) هو تشريع لا يستفاد من أحد بعده صلى الله عليه وسلم من إمام أو غيره، ونحن نحيل قائل هذا القول إلى كلام ابن المنير السابق حيث قال: (وتعذرت مراجعة الإمام) وهذا التعذر يشمل غياب الإمام أو عدمه، وكلام ابن قدامة أكثر وضوحا حيث قال: "فإن عُدِمَ الإمام لم يؤخر الجهاد ... الخ".
ومقتضى قول هذا القائل أن الجهاد بأفغانستان أو بمثلها لا يجوز وباطل لأن الجماعات والأحزاب المقاتلة غير شرعية لعدم صحة الإمارة عليها، وهذا يقتضي أن من أقدم على هذا الجهاد تحت هذه الإمارات هو آثم، وأن المسلمين عليهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون ديارهم ونسائهم وأموالهم تُغتصب حتى ينزل عليهم إمام من السماء، فهل يقول بهذا مسلم؟ أم هل يقول بهذا من فيه مُسْكَةٌ من عقل؟ ومن بقي في نفسه أثر من هذه الشبهة فالدليل التالي يزيلها إن شاء الله تعالى:
عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صَلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة" أخرجه مسلم، فهذا نص واضح صريح من النبي صلى الله عليه وسلم يبين:
أولًا: استمرارية وبقاء الطائفة المنصورة المقاتلة على الحق حتى نزول عيسى عليه السلام وهبوب الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين جميعا.
ثانيًا: صحة وشرعية الإمارة على هذه الطائفة على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال: "فيقول أميرهم" وعلى لسان عيسى عليه السلام: (إن بعضكم على بعض أمراء) ولا ينبغي أن يحمل هذا (أي صحة الإمارة) على آخر الطائفة وقت نزول عيسى عليه السلام دون ما قبله من الأزمنة، فإن إضافة الأمير إلى الطائفة (أميرهم) مع بيان أن صفة هذه الطائفة هي الإستمرارية (لا تزال) يبين استمرارية هذه الإمارة وصحتها، وأن الإمارة صفة لازمة لهذه الطائفة في كل زمان (لا تزال ...أميرهم) فإذا ثبت أنه تأتي على المسلمين أزمنة يفتقدون فيها الإمامة الكبرى (الخلافة) وثبت صحة واستمرارية الإمارة على الطائفة المنصورة، فتكون الإمارة على هذه الطائفة في حالة انعدام الإمام صحيحة إن شاء الله.
ثالثًا: كيفية عقد الإمارة على هذه الطائفة، بتأميرهم أحدهم عليهم (إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة) فهذا مما كَرَّم الله به المسلمين، وهذا يتفق تماما مع صنيع الصحابة يوم مؤتة، ويدل على أن هذا الصنيع (تأمير المسلمين لأحدهم) ليس خاصا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لبقاء هذا الحكم حتى نزول عيسى عليه السلام.
رابعًا: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246]، وهذه الآية - عندي - من أوضح الأدلة على وجوب الإمارة من أجل الجهاد، فهذه أمة مهزومة مطرودة من ديارها أرادت الجهاد، فبدأت بطلب القائد الذي ستقاتل تحت إمرته، وقد بعث الله عز وجل لهم طالوت ملكا، وهذا تقرير من الله عز وجل لصحة مطلبهم، وهذا هو حالنا اليوم مسلمون مستضعفون لا عزة لهم إلا بالجهاد كما في حديث العينة، ومن مقتضيات الجهاد نصب الأمير، أما كيفية نَصْبِهِ في هذا الزمان فتكون باتفاق الجماعة عليه كما في حديث غزوة مؤتة، وحديث جابر بن عبد الله السابق: "إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة".
خامسًا: قال إمام الحرمين الجويني في "غياث الأمم" (ص 387-388):
"وإذا لم يصادف الناس قَوَّامًا بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يُؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن، عم الفساد البلاد والعباد - إلى قوله - وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهي وذوي العقول والحجا، من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عند مناهيه ومزاجره فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إطلال الواقعات".
وعندما قدم التتار لغزو الشام وتأخر السلطان عن نصرة الشام رحل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بمصر ليستحثه على نجدة الشام، وقال للسلطان وأعوانه:
"إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جُرِّدَت العساكر إلى الشام، ثم قال لهم: لو قدر لكم أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقَوَّى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكَرَّة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدا بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم" "البداية والنهاية" 14/ 15.
فاتفق الجويني وابن تيمية على أنه لو خلا بلد عن السلطان أقام الناس بأنفسهم من يلتزمون قوله وأمره، وهذا أيضا يتنزل في حق كل جماعة أو طائفة اتفقت على القيام بأمور الدين في غيبة إمام المسلمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام