words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(27) مسألة الاستعانة بالمشرك في الجهاد، هل يجوز؟ وما حدود هذه الاستعانة؟




هذه المسألة ورد فيها ما يدل على المنع وهو حديث عائشة مرفوعا: "ارجع فلن أستعين بمشرك" أخرجه مسلم، وذلك يوم بدر.
وورد فيها ما يدل على الجواز وهو استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط وهو مشرك ليدله على طريق الهجرة من مكة إلى المدينة. أخرجه البخاري (3905) عن عائشة.
وكذلك استعانته صلى الله عليه وسلم باستعارة دروع وسلاح من صفوان بن أمية وهو مشرك يوم حنين. أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم وصححه.
ووردت أحاديث دلت على استعانة النبي صلى الله عليه وسلم بالمشركين في القتال نفسه إلا أنها لا تقوم بها حجة، من مرسل الزهري رواه أبو داود والترمذي، وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" 8/ 45:
"ولا يصلح مرسل الزهري لمعرضة ذلك لما تقدم من أن مراسيل الزهري ضعيفة، والمسند - بمعناه - فيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف".
قلت: ولذلك اختلفت أقوال العلماء في مسألة الاستعانة بالمشرك في الغزو تبعا لتعارض الأدلة:
أ - فذهبت طائفة من أهل العلم إلى القول بمنع الاستعانة بالمشركين مطلقا، أخذا بحديث عائشة "ارجع فلن أستعين بمشرك" وقالوا هذا حديث ثابت وما يعارضه لا يوازنه في الصحة والثبوت فتعذر ادعاء النسخ لهذا [[1]]، وممن قال بهذا ابن المنذر والجوزجاني وغيرهم.
ب - وذهبت طائفة إلى القول بأن حديث الاستعانة بصفوان ناسخ لحديث "ارجع فلن أستعين بمشرك" لأن حديث صفوان متأخر وكان يوم حنين والآخر يوم بدر، ومنهم من لم يقل بالنسخ ولكن قال بالإباحة بعد المنع، قال أبو بكر الحازمي في "الاعتبار" (ص 219):
"وذهبت طائفة إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه ويستعين بهم، ولكن بشرطين:
أحدهما: أن يكون في المسلمين قِلَّة وتدعو الحاجة إلى ذلك.
والثاني: أن يكون ممن يوثق بهم فلا تُخشى ثائرتهم.
فمتى فُقِد هذان الشرطان لم يجز للإمام أن يستعين بهم، قالوا: ومع وجود الشرطين يجوز الاستعانة بهم وتمسكوا في ذلك بما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم، واستعان بصفوان بن أمية في قتال هوازن يوم حنين، قالوا: وتعين المصير إلى هذا لأن حديث عائشة رضي الله عنها كان يوم بدر وهو متقدم فيكون منسوخا".
قلت: حديث ابن عباس في الاستعانة باليهود في سنده الحسن بن عمارة وهو ضعيف فلا يكون ناسخا للحديث الصحيح، أما حديث صفوان فحديث ثابت غير أن صفوان لم يقاتل بنفسه.
وقال ابن قدامة في "المغني" 10/ 456:
"وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به، وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية، ويشترط أن يكون من يُستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجزئه الاستعانة به لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يُؤْمَن من المسلمين مثل الْمخذل والْمُرْجِف فالكافر أَوْلَى".
ومثل كلام ابن قدامة هذا ما ذكره النووي في شرح حديث "لن أستعين بمشرك" إذ أورده في باب (كراهة الاستعانة في الغزو بكافر إلا لحاجة أو كونه حسن الرأي في المسلمين) وذكر النووي 12/ 198 أنه قول الشافعي.
قال الشوكاني في "نيل الأوطار" 8/ 44:
"ومنها أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، قال الحافظ في (التلخيص): وهذا أَقْرَبُها وعليه نص الشافعي، وإلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين ذهب جماعة من العلماء وهو مروي عن الشافعي، وحكى في (البحر) عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه أنها تجوز الاستعانة بالكفار والفُسَّاق حيث يستقيمون على أوامره ونواهيه واستدلوا باستعانته
صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين وبإخباره صلى الله عليه وسلم بأنها ستقع من المسلمين مصالحة الروم ويغزون جميعا عدوا من وراء المسلمين.
قال في (البحر): وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أُبَيّ وأصحابه، وتجوز الاستعانة بالفُسَّاق على الكفار إجماعا - إلى أن قال - وشرط بعض أهل العلم ومنهم الهادوية أنها لا تجوز الاستعانة بالكفار والفساق إلا حيث مع الإمام جماعة من المسلمين يستقل بهم في إمضاء الأحكام الشرعية على الذين استعان بهم ليكونوا مغلوبين لا غالبين كما كان عبد الله بن أُبَيّ ومن معه من المنافقين يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم كذلك".
جـ - الذي أراه والله أعلم بالصواب، أنه لا تعارض بين النصوص الواردة في الاستعانة بالكافر في الغزو، وكل نص منها ينبغي أن يُحْمَلَ على كيفية معينة للاستعانة، فحديث عائشة يحمل على منع الاستعانة بالكافر في القتال نفسه، وهو صيغة عموم (نكرة في سياق النفي) وهي "لن أستعين بمشرك"، وقلت في القتال نفسه لأن نص الحديث يدل عليه وهو: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدر فلما كان بِحَرَّة الوبرة أدركه رجل قد كان يُذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال فارجع فلن أستعين بمشرك" أخرجه مسلم.
وهذا الحديث له شواهد تُعضِّده منها ما رواه البخاري (2808) عن البراء قال: "أتى النبِيَ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مقنَّع بالحديد فقال: يا رسول الله، أقاتِلُ وأُسلِمُ؟ قال: أَسلِم ثم قاتِل. فأسلَم ثم قاتَل فقُتِل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمِلَ قليلا وأُجِرَ كثيرا".
وعن خبيب بن يساف قال: "أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوا - أنا ورجلٌ من قومي ولم نُسلم، فقلنا إنَّا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال أَوَ أَسْلَمْتُمَا؟ قلنا: لا، قال: إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، قال فأسلمنا وشهدنا معه" الحديث قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 306:
"رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات".
وعن أبي حميد الساعدي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد حتى إذا جاوز ثنية الوداع فإذا هو بكتيبة خَشْنَاء، فقال من هؤلاء، قالوا عبد الله بن أُبَيّ في ستمائة من مواليه من بني قينقاع، فقال وقد أسلموا؟ قالوا لا يا رسول الله، قال: مروهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين".
قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 306:
"رواه الطبراني في (الكبير) و (الأوسط) وفيه سعد بن المنذر بن أبي حميد ذكره ابن حبان في (الثقات)، فقال سعد بن أبي حميد فنسبه إلى جده وبقية رجاله ثقات".
فهذه النصوص واضحة الدلالة في منع الاستعانة بالكافر في القتال نفسه، وليس لها معارض، فحديث صفوان ليس فيه الاستعانة بصفوان نفسه في القتال، بل باستعارة السلاح منه، فينبغي أن يحمل على جواز نوع معين من الاستعانة بالكافر، ويحتج البعض بحديث: "إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ" وأن هذا الفاجر قاتل مع المسلمين، وليس في هذا الحديث حجة في الاستعانة بالمشرك إذ الفجور لا يعني الشرك وحده، وقد ثبت بالنصوص الأخرى الواردة في قصة هذا الفاجر أنه كان يُظهِر الشرك، وأحكام الدنيا تجري على الظاهر، فقد روى البخاري (4203) عن أبي هريرة قال: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يَدَّعي الإسلام: هذا من أهل النار".
وقال ابن حجر في نفس هذا الرجل:
"وفي حديث أكثم بن أبي الجون الخزاعي عند الطبراني (قال قلنا يا رسول الله فلان يجزئ في القتال، قال: هو في النار، قلنا: يا رسول الله إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار فأين نحن؟ قال صلى الله عليه وسلم: ذلك أخبث النفاق، قال: فكنا نتحفظ عليه في القتال)". "فتح الباري" 7/ 472-473.
قلت: ولا يشكل على الأدلة السابقة في منع الاستعانة بالكافر في الغزو إلا حديث ذِي مِخْبَر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صلحا وتغزون أنتم وهُم عدوا من ورائكم".
 أخرجه أبو داود (2767) (4292)، وابن ماجه (4089)، وأحمد 4/ 91، وابن حبان (6708) و (6709)، والحاكم 4/ 421، وصححه.
قلت: ورغم ورود هذا الحديث في باب (ما جاء في الاستعانة بالمشركين) إلا أن الشوكاني قال في تحقيقه للأدلة "نيل الأوطار" 8/ 45:
"والحاصل أن الظاهر من الأدلة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركا مطلقا".
إن الشوكاني لم يعتبر حديث ذِي مِخْبَر مُشْكِلا على أدلة المنع، ولم يعتبره دليل إباحة، ولعل سبب ذلك أن حديث ذِي مِخْبر ورد بصيغة الخبر وهي لا تفيد أمرا أو نهيا إلا إذا اقترنت بمدح أو ذم على الترتيب.
والحق أن حديث ذي مخبر له تكملة تضمنت المدح والذم معا، وهي كالتالي: "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا أمنًا ثُمَّ تَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا فَتُنْصَرُونَ ثُمَّ تَنْزِلُونَ مَرْجًا، فَيَرْفَعُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلِيب الصَّلِيبَ فَيَقُولُ غَلَبَ الصَّلِيبُ فَيَغْضَبُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَقُومُ إِلَيْهِ فَيَدْفَعهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وَيَجْمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ".
فالحديث خبر وفيه مدح "فَتُنْصَرُونَ" وذم "تَغْدِرُ الرُّومُ وَيَجْمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ"، فهذا الحديث لا يعارض أحاديث المنع الصريحة.
ولذلك فقد قال الشوكاني بعد ما ذكر أدلة المنع وأدلة الجواز وأقوال العلماء فيها، قال في "نيل الأوطار" 8/ 45:
"والحاصل أن الظاهر من الأدلة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركا مطلقا، لما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نستعين بالمشركين) من العموم، وكذلك قوله: (أنا لا أستعين بمشرك)، ولا يصلح مرسل الزهري لمعارضة ذلك لما تقدم من أن مراسيل الزهري ضعيفة، والمسند فيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا}، وقد أخرج الشيخان عن البراء قال "جاء رجل مقنع بالحديد، فقال يا رسول الله: أُقَاتِل أَو أُسْلِم، قال صلى الله عليه وسلم: أَسْلِم ثم قَاتِل، فَأَسْلَمَ ثُم قَاتَل، فَقُتِل، فقال رسول الله عَمِلَ قليلا وأُجِرَ كثيرا".

خلاصة القول في هذه المسألة:
إن حديث عائشة "لن أستعين بمشرك" نص عام في منع الاستعانة بالمشرك بأي كيفية في القتال أو في إعداد العدة أو غيره، إلا أنه يستثنى من هذا المنع بعض أنواع الاستعانة بالمشرك التي ثبتت بالنصوص، وهي:
أولا: الاستعانة بخبرة الكافر فيما يشابه استعانته صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط في الهجرة، ويمكن أن نعتبر هذا النص مُخَصِّصا لعموم حديث عائشة السابق لأنه متقدم عليه زمنا، ويؤيد هذا التخصيص استعانته صلى الله عليه وسلم بأسرى بدر في تعليم أبناء المسلمين الكتابة كفداء، وهذه قصة متأخرة عن حديث "لن أستعين بمشرك"، وفي قصة أسرى بدر قال صاحب تكملة "أضواء البيان" 9/ 357 الشيخ عطية بن محمد بن سالم:
"يدل على أمرين:
أولهما: شدة وزيادة العناية بالتعليم.
وثانيهما: جواز تعليم الكافر للمسلم مَا لاَ تعلق له بالدين، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية في الهندسة والطب والزراعة والقتال ونحو ذلك".
وذكر ابن القيم صورة أخرى للاستعانة بخبرة الكافر في التجسس على العدو، فقال في الفوائد الفقهية في قصة الحديبية "زاد المعاد" 2/ 127:
"ومنها أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة، لأن عيينة الخزاعي العين (الجاسوس) كان كافرا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب من اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم".
قلت: وخزاعة مسلمهم وكافرهم كانوا أهل نصح للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: الاستعانة بسلاح الكافر بالاستعارة أو الشراء، لحديث صفوان وهذا الحديث نظرا لتراخيه زمنا عن حديث "لن أستعين بمشرك" فليس بمخصص له بل نَسَخَهُ نسخا جزئيا وليس كليا، إذ أنه أباح بعض أنواع الاستعانة الممنوعة ولم يبحها كلها، ومن الخطأ اعتباره ناسخا نسخا كليا لحديث "لن أستعين بمشرك".
نخلص من هذا:
- عدم جواز الاستعانة بالكافر في القتال نفسه أو التخطيط للمعارك أو الإشراف عليها.
- وجواز الاستعانة بالكافر في الدلالة على الطريق، أو تعليم بعض فنون القتال للمسلمين في غير المعارك أي في معسكرات التدريب، وجواز شراء السلاح والذخيرة منه أو استعارتها وأشباه هذا مما لا تعلق له بالقتال نفسه أو التخطيط له، ويشترط فيمن يستعان به الشروط التي ذكرها الفقهاء من كونه حسن الرأي في المسلمين وأن الحاجة تدعو لذلك وألا تكون له ولاية على المسلم.
فتَنَبَّه لما يجوز وما لا يجوز من أنواع الاستعانة، وما ذكره ابن قدامة 10/ 456 من أن أحمد بن حنبل أجاز الاستعانة بالمشرك، خالفه القاضي أبو يعلى بقوله في قتال البغاة، فقال في "الأحكام السلطانية" (ص 55):
"ولا يستعين على قتالهم بمشرك معاهد ولا ذمي، وقد منع أحمد من ذلك في قتال أهل الحرب، فأولى في قتال البغاة".
وعلى هذا ينبغي أن تحمل رواية ابن قدامة عن أحمد على ما يجوز من أنواع الاستعانة بالمشرك لا مطلق الاستعانة به، إذ لم يثبت لدينا بالنقل الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بكافر في القتال نفسه، كيف وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، وقال تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، ولذلك فإن ما يُنقل في كتب فقهاء المذاهب رحمهم الله من جواز الاستعانة بالكافر في القتال لا نسلم به هكذا مطلقا، والقتال أخص من الجهاد ومن الغزو فتجوز الاستعانة بكيفية معينة كما أسلفت لا الاستعانة المطلقة.
قلت: إلا أن أبا محمد بن حزم أجاز الاستعانة بالكافر في الغزو ليس من جهة الأحاديث المبيحة لذلك - فهي لا تقوم بها حجة - ولكن من جهة الاضطرار مستدلا بآية رخصة المضار، فقال في "المحلى" 11/ 113:
"وقد ذكرنا هذا في كتاب الجهاد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا لا نستعين بمشرك، وهذا عموم مانع من أن يُستعان به في ولاية أو قتال أو شيء من الأشياء إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة به فيه كخدمة الدابة أو الاستئجار، أو قضاء الحاجة ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصَّغَار، والمشرك اسم يقع على الذمي والحربي قال أبو محمد رحمه الله: هذا عندنا مادام في أهل العدل مَنَعَة فإن أشفوا على الهَلَكَة واضطروا ولم تكن لهم حيلة فلا بأس بأن يلجئوا إلى أهل الحرب وأن يمتنعوا بأهل الذمة ما أيقنوا أنهم في استنصارهم لا يؤذون مسلما ولا ذميا في دم أو مال أو حرمة مما لا يحل برهان ذلك قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}، وهذا عموم لكل من اضطر إليه إلا ما منع منه نص أو إجماع، فإن علم المسلم - واحدا كان أو جماعة - أن من استنصر به من أهل الحرب أو الذمة يؤذون مسلما أو ذميا فيما لا يحل فحرام عليه أن يستعين بهما وإن هلك لكن يصبر لأمر الله تعالى وإن تلفت نفسه وأهله وماله أو يقاتل حتى يموت شهيدا كريما، فالموت لابد منه ولا يتعدى أحد أجله".
كذلك لا يُعترض على ما سبق بما ذكره الإمام الماوردي في "أحكامه السلطانية" (ص 27) من أن الذمي يجوز أن يتولى وزارة التنفيذ، وذكره أيضا القاضي أبو يعلى بصيغة تضعيف ثم انتقده أيضا بقول الإمام أحمد، قال أبو يعلى:
"وقد قيل: إنه يجوز أن يكون هذا الوزير - أي وزير التنفيذ - من أهل الذمة، وإن لم يكن وزير التفويض منهم، إلا أن يستطيلوا فيكونوا من الاستطالة - ثم قال - ورُوِي عن أحمد ما يدل على المنع، لأنه قال في رواية أبي طالب - وقد سئل: نستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ - فقال (لا يُستعان بهم في شيء) قال أبو يعلى: ويكون الوجه فيه قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَالُونَكُمْ خَبَالا}، وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، وقوله عليه الصلاة والسلام:
(لا تأمنوهم إذ خَوَّنَهم الله)".
فهذه كبوة من الماوردي على منزلته، وكل يؤخذ من قوله ويُرَد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حمل عليه الجويني حملة عنيفة فقال في "غياث الأمم" (ص 156-157):
"وذكر مصنف الكتاب المترجم بـ (الأحكام السلطانية) أن صاحب هذا المنصب يجوز أن يكون ذميا، وهذه عثرة ليس لها مقيل - إلى قوله - وقد توافت شهادة نصوص الكتاب والسنة على النهي عن الركون إلى الكفار والمنع من ائتمانهم واطلاعهم على الإسرار، قال الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَالُونَكُمْ خَبَالا}، وقال تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا بَريءٌ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لاَ تَتَرَاءَى نَارَهُمَا"، واشتد نكير عمر على أبي موسى الأشعري لما اتخذ كاتبا نصرانيا، وقد نص الشافعي على أن المترجم الذي يُنْهِى إلى القاضي معاني لغات الْمُدَّعين يجب أن يكون مسلما عدلا رِضًا، ولست أعرف في ذلك خلافا بين علماء الأقطار، فكيف يسوغ أن يكون السفير بين الإمام والمسلمين من الكفار".
قلت: فانتبه لهذا، ولا تقبل قولا من أحد كائنا من كان إلا بدليل من الكتاب أو السنة فإذا طبقنا هذا على موضوعنا الأصلي وهو معسكر التدريب، فأقول، إذا دعت الحاجة إلى الاستعانة بمدرب كافر مأمون الضرر، فلا بأس به في مجال خبرته الفنية على أن تكون له إمارة أو رياسة على مسلم، ومع ذلك فيجب على المسلمين السعي في استكمال الخبرات الناقصة لديهم حتى يستغنوا عن هذا، واستكمال ما لابد منه للمسلمين هو من فروض الكفاية التي يأثم المسلمون جميعا إن لم يستوفوها.

٭ ٭ ٭


____________________ 

[1] - "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" للحازمي (ص 218).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام