words' theme=''/>

علوم أهل الحديث والأثر (الفوائد العلمية)

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(31) الطواغيت الأحياء أعظم من الطواغيت الأموات




أقصد بالطواغيت الأحياء أئمة الكفر والحكام المرتدين الذين يحكمون المسلمين بالشرائع الْمُبَدَّلة ويشيعون الكفر والفواحش فيهم، وأقصد بالطواغيت الأموات القبور والأحجار والأشجار وغيرها من الجمادات التي تُعبد من دون الله تعالى بشتى صور العبادة من الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغيرها، فلا جدال في أن الأحياء أعظم فتنة وفسادا من هؤلاء، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بقتال الطواغيت الأحياء قبل إزالة الطواغيت الأموات، فما أزال النبي صلى الله عليه وسلم الأصنام إلا بعد فتح مكة، كما روى البخاري (4287) عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال:
"دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد".
ثم أرسل صلى الله عليه وسلم أصحابه لإزالة بقية الأصنام بجزيرة العرب، وذلك بعد ما أزال سلطان الطواغيت الأحياء، مع إنكاره صلى الله عليه وسلم عليهم وعلى أصنامهم وتبرئه منهم منذ بدء البعثة.
وهذه هي ملة إبراهيم - عليه الصلاة السلام - البراءة من الكافرين الأحياء قبل البراءة من معبوداتهم قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال الشيخ حمد بن عتيق:
"وها هنا نكتة بديعة في قوله: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهي أن الله تعالى قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله، لأن الأول أهم من الثاني، فإنه قد يتبرأ من الأوثان ولا يتبرأ ممن عبدها، فلا يكون آتيا بالواجب عليه، وأما إذا تبرأ من المشركين، فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم. وهذا كقوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}، فقدم اعتزالهم على اعتزال معبوداتهم، وكذا قوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وقوله: {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ}، فعليك بهذه النكت، فإنها تفتح بابا إلى عداوة أعداء الله، فكم من إنسان لا يقع منه الشرك، ولكنه لا يعادي أهله، فلا يكون مسلما بذلك إذ ترك دين جميع المرسلين.
ثم قال: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} فقوله: وبدا أي ظهر وبان وتأمل تقديم العداوة على البغضاء، لأن الأولى أهم من الثانية، فإن الإنسان قد يُبغض المشركين ولا يعاديهم، فلا يكون آتيا بالواجب عليه حتى تحصل منه العداوة والبغضاء، ولابد أيضا من أن تكون العداوة والبغضاء باديتين ظاهرتين بينتين.
واعلم أنه وإن كانت البغضاء متعلقة بالقلب فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها، وتتبين علامتها، ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة، فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين. وأما إذا وجدت الموالاة والمواصلة، فإن ذلك يدل على عدم البغضاء فعليك بتأمل هذا الموضع فإنه يجلو عنك شبهات كثيرة".
وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.
وليس المقصد مما سبق بيان الترتيب بل بيان الأهمية، فلا يعني كلامي السابق مشروعية السكوت عن الطواغيت الأموات وعابديهم حتى نقضي على الطواغيت الأحياء، فإن الشريعة قد اكتملت ومن رأى منكم منكرا فليغيره قدر الاستطاعة، أما الأهمية التي أردت التنبيه عليها: فهي أن إفساد الطواغيت الأحياء لدين الناس يكاد يهدد الجم الغفير من المسلمين بالردة الشاملة تارة بالإرهاب وتارة بالمكر والخديعة، وهذا الإفساد لا يدانيه خطر الطواغيت الميتة.
فالعجب من أناسٍ ينتسبون إلى العلم والدين ومذهب السلف فَرَّغوا أقلامهم في هذا الزمان لمهاجمة الطواغيت الميتة ونسوا أو تناسوا الطواغيت الحية، وترى أحدهم يعيش في بلد يستظل بالقوانين الوضعية الكافرة والديمقراطية الكافرة، وهو متجاهل لها تماما ويغض الطرف عنها وهو - مع هذا - يشهر حسامه وسيفه - على صفحات الكتب - على الطواغيت الميتة وعلى عابديها من العُزَّل من السلاح، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، فتأمل هذا تدرك بعض أسباب ما نحن فيه من محن وبلاء، وهو أن المستَأمَنِين على العلم والدين لم يؤدوا دورهم في البلاغ والتحذير، فكيف بمن رضي وتابع؟ وكيف بمن أسبغ الشرعية على هؤلاء الطواغيت؟! وإذا تكلم أحدهم عن الجهاد تجده يذكر الجهاد في فلسطين وأفغانستان فقط لأن هذا هو القدر المسموح به في بعض البلدان، مع أن جهاد الحكام المرتدين أوجب من جهاد اليهود فكلاهما عدو كافر حل ببلد المسلمين ويفوق الحكام المرتدون اليهودَ بأمرين: القرب والرِّدة وكلاهما يستوجب البدء بهؤلاء الحكام، كما لا يخفى أن من يجاهد في فلسطين أو أفغانستان يسمى بطلا وشهيدا وتغدق عليه الأموال والإعانات أما في غيرهما فهو مجرم إرهابي خارج على الشرعية، شرعية الكفر، فتأمل هذا.
وتأمل أيضا هذا الحديث تدرك خطر الطواغيت الحية، وهو ما رواه البخاري (3834) عن قيس بن أبي حازم:
"أن امرأة من أحمس سألت أبي بكر فقالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس".
وقال ابن حجر في شرحه "فتح الباري" 7/ 151:
"(ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح) أي: دين الإسلام وما اشتمل عليه من العدل واجتماع كلمة ونصر المظلوم ووضع كل شيء في محله (ما استقامت بكم أئمتكم) أي: لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حَادَ من الأئمة عن الحال مَالَ وأَمَال".
وقال عبد الله تعالى بن المبارك رحمه الله:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها؟
قلت: ومما يؤسف له أن سكوت هؤلاء المنتسبين إلى العلم عن الطواغيت الأحياء صار حجة للسكوت عند فئام من الشباب وحجة للقعود عن الجهاد المتعين، وصار الجهاد عند هؤلاء مقصورا على جهاد القبوريين والصوفية، وهل يحيا القبوريون والمتصوفة إلا في كنف الطواغيت الأحياء؟

٭ ٭ ٭

(30) شبهة في إنكار (جهاد الطلب)




يستدل البعض لإنكار جهاد الطلب بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، وأنه مادام الكافر مسالِمًا فلا جهاد، ويستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو" متفق عليه.
وهذا هو حال الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، الذين يستدلون بأحد أدلة المسألة ويتركون بقية الأدلة...والجواب على هذه الشبهة من أوجه:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين هم خير هذه الأمة رضي الله عنهم لم يحملوا هذه النصوص على الوجه الذي فهمه هؤلاء، بأنها تعني ترك جهاد الطلب، فقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم العرب ثم خرج لقتال الروم في تبوك، وقد غزا صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة - متفق عليه عن زيد بن أرقم -، وقاتل بنفسه في ثمان منهن - رواه مسلم عن بريدة -، أما البعوث والسرايا التي أرسلها ولم يخرج فيها فبلغت ستا وثلاثين في رواية ابن إسحاق وزاد غيره عن ذلك - "فتح الباري" 7/ 279 - 281، و صحيح مسلم بشرح النووي 12/ 195 -، ثم غزا الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم الفرس والروم والترك والقبط والبربر وغيرهم
مما هو معلوم، فهذا الذي استدل بهذه النصوص لإبطال جهاد الطلب نقول له: هذا الذي فهمته شيء فهمه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته أم لا؟ فإن قال لم يفهموه. فنقول له فأنت فهمت ما لم يفهموه، وحكمت على نفسك بالضلالة وأن ما فهمته ليس من ديننا، لأن الدين اكتمل في حياته صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وفهمك هذا مردود ساقط "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ"، وقد خَرَجْتَ بهذا الفهم الفاسد عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وعن سبيل صحابته، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
أما إن قال بل فهموا ما فهمه هو، فنقول له: قد كانت سيرتهم بخلاف هذا الفهم، فإما أنه الحق وهم خالفوه، ولا يقول بهذا إلا زنديق، وإما أنه الباطل والضلالة فليس هو فهمهم ولا عملهم.
الثاني: أما قول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، لا يمنع المسلمين من الجهاد إلا العجز، ويجب الإعداد حينئذ، وذلك لقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ}، فما دامت بالمسلمين قوة وكانوا أعلى من عدوهم فلا سِلْم ولا هدنة ولا صلح، بل القتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وذلك لأن آخر ما نزل في الجهاد هو قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فهذه الآية وآية الجزية بنفس الصورة أمر بالقتال العام، وهو من أواخر ما أنزل من القرآن، فلا ناسخ له، روى البخاري (4654) عن البراء رضي الله عنه، قال: "آخر سورة نزلت براءة".
وهكذا فَعَل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده في قتال المشركين وأهل الكتاب...ولا يمنع من هذا إلا العجز ولذلك ترى الكافرين يجتهدون في منع المسلمين من حيازة السلام، كما قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}.
وقد كررت في هذه الرسالة أنه إذا منع من الجهاد عجزٌ وَجَب الاستعداد، للآية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ}، وهكذا قال ابن تيمية رحمه الله (مجموع الفتاوى 28/ 259).
مما سبق تعلم أن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكافرين هو القتال وأن الإستثناء منه هو السلم في صورة هدنة أو صلح وأنه لا يلجأ إلى هذا الاستثناء إلا لضرورة من عجز ونحوه، وذلك لقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ}.
أما الآية المحتج بها فلا حجة فيها إذ إنها محمولة على جواز المسالمة بشرط حاجة المسلمين لذلك وهذا الشرط تبينه الآية الأولى{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ}، فآية الأنفال تختص بحال وهو كون المسالمة في مصلحة المسلمين ويحتاجون إليها، أما آية سورة محمد صلى الله عليه وسلم فهي تختص بحال آخر وهو كون المسالمة ليست في مصلحة المسلمين وذلك عندما تكون بهم قوة يقهرون بها عدوهم فإنه لا توجد المسالمة حينئذ لهذه الآية ولأن في هذا عدول عن الأصل المطلوب وهو إظهار دين الإسلام على ما عداه، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، هذا هو الأصل المقصود: إظهار الإسلام بقتال المشركين فإما أن يسلموا ويعودوا إلى العبودية لله رب العالمين، وإما أن يظلوا على كفرهم مؤدين الجزية تحت حكم الإسلام يجري عليهم الصغار اللازم لكل من تمرد على العبودية للواحد القهار، قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ}.
قال ابن كثير في تفسير آية الأنفال {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، قال:
"قال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخرساني وعكرمة والحسن وقتادة إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية، وفيه نظر أيضا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم".
وقال ابن حجر في نفس الآية {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} قال:
"هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين - إلى قوله - ومعنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظى للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرا على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا".
فالآية المحتج بها دالة على مشروعية المسالمة عند الحاجة لا وجوب المسالمة.
قلت: ولا ينبغي أن يفهم مما سبق أن الإسلام لا يدعو إلى السلام، بل يدعو إليه ولكن من منظوره الخاص، بل هو يريد هذا بجميع الخلق، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وقال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، وقال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}، هذا هو السلام في مفهوم الإسلام: الرحمة بالخلق وإخراجهم من الظلمات إلى النور والحض على مكارم الأخلاق وتحريرهم من العبودية للبشر {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، والنهي عن الفساد في الأرض، فما لم يتحقق هذا وجب الجهاد {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
الثالث: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو" فقد رواه البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس خطيبا فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم".
قلت: واضح من نص الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في إحدى غزواته لقوله: (في بعض أيامه التي لقي فيها) أي: العدو كما رواه مسلم، وقوله: (فإذا لقيتموهم فاصبروا) وقوله: (اهزمهم وانصرنا عليهم)، فكيف يستدل بهذا الحديث على ترك الجهاد وهو إنما قاله صلى الله عليه وسلم في أثناء الغزو؟ ثم إن الحديث مشتمل على الحض على القتال والالتحام بالعدو، وذلك في قوله: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ومعلوم أن المقاتل لا يكون تحت ظلال السيوف إلا عند الالتحام بعدوه حيث يعلو كل منهما صاحبه بسيفه، فكونه صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث أثناء توجهه للقتال، وكونه حض على القتال في نفس الحديث، يدل على أن النهي عن تمني العدو ليس على إطلاقه وإنما هو من جهة خاصة، وهي التحذير من العُجْب والوثوق بالقوة، وما أشار إليه ابن حجر في شرحه لهذا الحديث قال في "فتح الباري" 6/ 156:
"إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه صورة الإعجاب والاتكال على النفوس والوثوق بالقوة وقلة الاهتمام بالعدو، وكل ذلك يباين الاحتياط والأخذ بالحزم.
وقيل: يحمل النهي على ما إذا وقع الشك في المصلحة أو حصول الضرر، وإلا فالقتال فضيلة وطاعة".
وقال النووي مثله في "شرح صحيح مسلم" 12/ 45 - 46.
قلت: ومما يدل على أن النهي عن تمني لقاء العدو ليس على إطلاقه، تمني أنس بن النضر رضي الله عنه لقاء العدو بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "غاب عمي أنس بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتَلْتَ المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين لَيَرَيَن الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد! قال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صَنَعَ! قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتِلَ ومَثَّلَ به المشركون، فما عَرَفه أحد إلا أخته بِبَنَانه. قال أنس: كنا نرى - أو نظن - أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}".
قلت: فهذا الصحابي الجليل تمنى لقاء العدو، وصدق الله في ذلك، وبهذا ترى أن النهي عن تمني لقاء العدو إنما هو من جهة العُجْب والفخر وهما مذمومان، وبهذا ترى فساد هذه الشبهة التي يتعلل بها بعض الزائغين لإنكار جهاد الطلب الذي جعله الله تعالى وسيلة لإظهار الدين، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وقال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، وقال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، قال ابن القيم رحمه الله:
"والمقصود من الجهاد إنما أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله" وقال: "فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم، فهذا من دين الله، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عِزِّهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة". "أحكام أهل الذمة" 1/ 18.
قلت: ولا تناقض بين ما سبق وبين قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ}، فالقتال واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا ولا يتأتى ذلك إلا بغلبة المسلمين لعدوهم وعلو أحكام الإسلام على البلاد المفتوحة، أما عن أهل هذه البلاد فمن أسلم فبها ونعمت، ومن استمر على كفره فلا يُكره على اعتناق الإسلام، بل يبقى على كفره ولكن تحت حكم المسلمين، فالإكراه المنفي في سورة البقرة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} هو الإكراه على الإيمان، أما الكراهة المثبتة في آية التوبة {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فهي كراهيتهم لعلو حكم الإسلام عليهم مع بقائهم على دينهم.
وقد تقرر في الشريعة قَبول الجزية من أهل الكتاب ومَنْ في حكمهم {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} ولا يكرهون على الإسلام، أما عَبَدَة الأوثان ففي قبول الجزية منهم خلاف.
قلت: وينبغي أن يعلم المسلم أن الإيمان يكون جهاد الطلب واجبا على المسلمين معناه مصادمة القوانين الدولية المعاصرة التي تحرم اعتداء الدول بعضها على بعض وتمنع امتلاك أراضي الأرض الغير بالقوة، هذه القوانين التي يتحايل عليها الأقوياء الذين وضعوها، ولكن قال الله تعالى: {فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي}، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ}، وهذه الأحكام كلها منوطة بالقدرة والاستطاعة، وهذه الاستطاعة يجب تحصيلها حين العجز لتحقيق هذه الواجبات، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.

٭ ٭ ٭



قول البعض إن توصيف هؤلاء المرتدين الحاكمين لبلاد المسلمين بأنهم كالعدو الكافر إذا حل ببلد المسلمين غير صحيح، لأن هذا في العدو الأجنبي عن بلد الإسلام أما هؤلاء الحكام فمن أهل البلد نفسه، فهناك فرق؟! وهذا الكلام قيل لإبطال الاحتجاج بفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية - في قتال التتار الممتنعين عن الشريعة مع ادعائهم الإسلام - قيل لا يحتج بهذه الفتوى لأن التتار أجانب عن بلاد الإسلام.
وفي الجواب عن هذا نقول: مسألة الحاكم المرتد فيها نص مستقل وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "وألا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"...هذا الحديث مقيد لجميع الأحاديث الواردة بالصبر على أئمة الجور، كأحاديث ابن عباس "من رأى من السلطان شيئا يكرهه فليصبر" وحديث عوف بن مالك "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" ونحوها، ولهذا فقد أورد البخاري حديث عبادة عقب أحاديث ابن عباس في الباب الثاني من كتاب الفتن من صحيحه إشارة منه إلى هذا القيد، وهذا يكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد في وجوب الخروج على هؤلاء الحكام.
أما هذه الأوجه الثلاثة وغيرها فنحن نذكرها لا لبيان شرعية الخروج عليهم - فهذا ثابت بحديث عبادة - ولكن لبيان فوائد أخر كتوكيد هذا الخروج وتقديمه على غيره من أنواع الجهاد، وفي رد هذه الشبهة نقول: لم نسمع بأن الشريعة وردت بالتفريق بين الكافر الأجنبي والكافر الوطني فيما يترتب على الكفر من أحكام، قال تعالى:
{يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، وقال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}، الغرض من هذه الآيات بيان أن العداوة بين المؤمن والكافر متعلقة بوصف الكفر، هذا هو مناط الحكم لا بوصف آخر ككون الكافر أجنبيا أو وطنيا، لأن العداوة واجبة وإن كان الكافر هو ابنك أو قومك وعشيرتك، فمناط الحكم هو صفة الكفر لا غير، وما قيل في العداوة يقال في العقوبة، فعقوبة الكافر متعلقة بكفره، أي: بقيام صفة الكفر به لا بسبب وصف آخر، وهذا هو مناط الحكم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بَدَّل دينه فاقتلوه" متفق عليه، فجعل عِلَّة القتل هي تبديل الدين، أي: الكفر بعد الإسلام، هذا هو مناط الحكم، إذا تبين هذا فنقول إن وصف الكفر الذي تترتب عليه العقوبة (قتل المقدور عليه وقتال الممتنع) هذا الوصف قائم بالكافر الأجنبي والوطني على السواء، وإذا تسلط هذا على المسلمين ببلد ما فلا فرق بين كونه قادما من خارج البلدة، وبين كونه من أهلها بحكمها فَكَفَر، أو كَفَر وتسلط عليها، فمناط الحكم قائم في كل هذه الأحوال، ومن كان من أهل البلدة فكفر خرج بكفره عن كونه من أهلها المسلمين وصار أجنبيا عنهم، لقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، فخرج بكفره عن كونه من أهله وصار أجنبيا عنه، على أن هناك أوصافا ثانوية تؤثر في العقوبة، ومن هذا التفريق بين الكافر الأصلي والمرتد، فالمرتد عقوبته أغلظ ... وكذلك التفريق بين الكافر المحارب والمسالم عند الثلاثة خلافا للشافعي، وكذلك التفريق بين الأقرب والأبعد في أولوية الجهاد...ومن هنا ترى أن هؤلاء الحكام المرتدين قد قامت بهم جميع الأوصاف المغلظة، كالردة والمحاربة والقرب، على النقيض مما يقابلها من الأوصاف المخففة وهي الكفر الأصلي والمسالمة والبعد، ومثل ما سبق: أن كل مسكر حرام، سواء كان اسمه خمرا أو كحولا أو نبيذا، وسواء كان مَحَلِّيا أو مستوردا، وسواء كان لونه أبيض أو أحمر، كل هذه ليست هي الأوصاف المؤثرة في الحكم، وإنما الوصف المؤثر وهو العِلّة ومناط الحكم هو الإسكار، طالما وجد هذا الوصف - دون اعتبار لبقية الأوصاف - وجد الحكم وما يترتب عليه، وهنا أيضا قد يوجد وصف ثانوي يؤثر في العقوبة، كمن شرب الخمر في نهار رمضان، فيقام عليه الحد ويعزر لحرمة الشهر، ولولا الوصف الأصلي (الإسكار) لما وجبت
عليه عقوبة أصلا، فالذي يقول بالتفريق بين الكافر الأجنبي والكافر الوطني في الأحكام هو كالذي يقول بالتفريق بين الخمر المستورد والخمر المحلي، فتأمل هذا.
ولا يشترط لوجوب قتالهم تَمَيّز المسلمين المجاهدين في دار منفصلة عن دار الحاكم المرتد وطائفته كما يَدَّعيه البعض، ويكفيك في إبطال هذا الشرط ما نقلته عن ابن تيمية آنفا من الإجماع على وجوب قتال العدو إذا حل ببلد المسلمين، فأين الدار المستقلة هنا؟ بل إن هذا هو أحد مواضع تَعَيَّن الجهاد...ولم يرد دليل شرعي بهذا الشرط وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولم يشر أحد من أهل العلم إليه، غاية ما ذكره ابن قدامة في هذا أنه إذا اقترب العدو من بلد جاز لأهله الرجوع إلى حصن يَتَحَصَّنون به.
أما أمر الحاكم الكافر المرتد ففيه نص واضح جليّ، وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "وَأَلا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" متفق عليه.
ولم يشترط صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث - ولا في غيره - تَمَيُّزًا ولا مفاصلة، ولا نبّه أحد من أهل العلم على هذا كالقاضي عياض وابن حجر
في شرح هذا الحديث، فإن قال الذي اشترط هذا الشرط (تَمَيُّز الدارين) إنه يجب عقلا لا شرعا، فنقول له العقل لا يوجب شيئا كما ذكرنا في أصول الاعتصام بالكتاب والسنة، وإن قال إنه أمر اجتهادي، فنقول له إذا وصلنا إلى الاجتهاد فالأمر متروك لأهل الخبرة الحربية لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، أما من الناحية الشرعية فنحن نقول إنه لا يشترط لوجوب الخروج على الحاكم إلا القدرة من عدد وعدة، وهذه أيضا يحدد القدر المطلوب منها أهل الخبرة الحربية، ومن غَرّر بنفسه وخرج للجهاد بمفرده جاز له ذلك وهو مأجور إن شاء الله تعالى، إلا إذا كان يتبع طائفة مجاهدة فلا يخرج إلا بإذن الأمير أما دليل جواز خروجه منفردا فهو قول الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال ابن حزم في "المحلى" 7/ 299:
"ويُغْزى أهل الكفر مع كل فاسق من الأمراء وغير فاسق ومع المتغلِّب والمحارب كما يُغْزَى مع الإمام ويغزوهم المرء وحده إن قدر أيضا".
قلت: وجهاد هؤلاء الطواغيت فرض عين فللمرء أن يفعله وحده إن أراد، خاصة إذا أمكنته الفرصة من أحد هؤلاء، ولا يجب عليه التصدي لجمع عظيم من الكافرين بل يجوز له الفرار للتفاوت العددي، فإن ثبت وكان له غرض في الشهادة جاز له ذلك وهو حسن، قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، أما الواجب فهو قتالهم في جماعة، إذ المطلوب إظهار الدين {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وهذا لا يتأتى بالقتال منفردًا، ومن كان يتبع جماعة مجاهدة فلا يقاتل إلا بإذن أميره، قال تعالى:
{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ}...وقد خرج جماعة من المسلمين على الحكام المرتدين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، دون تَمَيُّز في الديار أو مفاصلة، فلما خرج الأسود العنسي المتنبي الكذاب وغلب على اليمن واستولى عليها احتال عليه فَيْروز الديلمي - وكان من أنصاره في الظاهر - حتى قتله، وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - "البداية والنهاية" لابن كثير 6/ 307  -.
ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، وما قال أحد كيف يقتل فيروز هذا الأسود قبل أن ينحاز إلى أرض مستقلة؟ كذلك خرج يزيد بن الوليد وطائفة معه على الخليفة الوليد بن يزيد لما اتُّهِم بالانحلال في الدين حتى قتلوه، دون تَمَيُّز في الديار - "البداية والنهاية"10/ 6 -.
ونقتصر على هذين المثلين اختصارا، وأصحاب هذه الشبهة يستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَشْرَع في القتال إلا بعد الهجرة، حيث أصبح للمسلمين دار مستقلة بالمدينة تميزوا فيها عن عدوهم، وهذا القول ليس بحجة إذ ليس فيه حصر، بمعنى أنه لم يرد نص شرعي يمنع القتال إلا في مثل هذه الحالة، وهذا واضح، ثم إن هذا الزمان كان زمان تشريع أما الآن ومنذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد اكتملت الشريعة وأحكامها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وقد انعقد الإجماع على أنه إذا نزل العدو الكافر ببلد تَعَيَّن على أهله قتالهم - أي صار دفع الكافرين فرض عين على المسلمين بهذه البلدة - فهاهم المسلمون وعدوهم في دار واحدة، وقد فقد المسلمون استقلالية دارهم بالغزو، ومع ذلك يجب عليهم القتال عَيْنًا إجماعًا كما في "الاختيارات الفقهية" لابن تيمية (ص 309).
إن الخروج على الحاكم المرتد هو أمر منوط بالقدرة، ويختلف من بلد إلى بلد، ويتكلم فيه أهل الخبرة من الناحية التنفيذية، وإذا علم الله سبحانه حسن النية من طائفة مجاهدة فسيهديهم وييسر لهم ما فيه مرضاته، قال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}.
أما القاعدون عن هذا الجهاد المتعين فلم يكتفوا بالقعود بل هم يثبطون غيرهم ويخذلونهم بهذه الشبهات التي هي عقوبة قدرية لهم على قعودهم وتخلفهم، كما قال تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}، فلما تخلفوا طَبَع الله على قلوبهم بعدم الفقه فأخذوا يُنَقِّبون عن الشبهات ليبرروا تخلفهم وليثبطوا غيرهم فيحملوا أوزارهم مع أوزارهم، وهكذا سيئة تولِّد سيئة، قال تعالى: {إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}.
إن هذا القول باشتراط تَمَيُّز الدارين لوجوب الجهاد هو قول فاسد، وهو يفضي إلى تعطيل الجهاد خاصة جهاد الدفع.
قلت: كذلك فإن هذا القول باشتراط تميز الدارين معناه الاستسلام للأمر الواقع والسكوت عن هؤلاء الطواغيت الحاكمين لبلاد المسلمين، ومعناه إسقاط فريضة الجهاد المتعين على أعيان المسلمين بهذه البلاد، وهذا القول يفضي إلى استئصال الإسلام بالكلية من هذه البلاد في زمن يسير، نعوذ بالله من ذلك - ولكنه غير مستبعد - فكم من بلاد قامت بها ممالك إسلامية عظيمة ثم هي اليوم ديار كُفْر، صار فيها الإسلام أثرا بعد عين، كالأندلس والتركستان وبخارى وسمرقند والبلقان وغيرها، وكم من بلاد أَسْقَط فيها أشياع هؤلاء المخذلين الجهاد بشبهاتهم الشيطانية، كما حدث في الهند وكانت مملكة إسلامية فاحتلها الإنجليز، وأسقط علماء السوء الجهاد بحجة أن الإنجليز هم أولوا الأمر الواجب طاعتهم لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهذا مثال لما رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مما يهدم الدين: (جدال المنافق بالقرآن)، ومن كان من العلماء يصد المسلمين عن الجهاد بهذه الشبهات ممالأة ونصرة للحاكم الكافر فهذا العالِم لا شك في كُفْره، هو مرتد خارج من ملة الإسلام، وحكمه حُكْم سيده الحاكم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
ويشترط آخرون تميز الطائفة الكافرة عمن يخالطها من المسلمين، وهذا واقع فالطائفة المناصرة للحاكم الكافر عادة ما تكون متميزة بلباس معين ولها معسكرات محددة وأماكن معلومة، وهذا لا يخفى على أحد، وأما إذا خالطهم مسلمون، فإما أن يكونوا ليسوا من الطائفة الكافرة أصلا وخالطوهم حال القتال، وإما أن يكونوا من الطائفة ولهم حكم الإسلام في الباطن (كالمكره ومن يكتم إيمانه ليتجسس عليهم)، وهؤلاء جميعا لا يخلو حالهم من أحد أمرين:
الأول: أن يكونوا غير متميزين عن أهل الكفر في الظاهر، فهذا لا يمنع من قتالهم على كل حال كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قال:
"ومن أخرجوه معهم مكرها فإنه يبعث على نيته ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه، إذ لا يتميز المُكْرَه من غيره، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَغْزُو هذا البيتَ جيشٌ من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذا خُسِفَ بهم. فقيل يا رسول الله: إن فيهم المُكْرَه، فقال: يُبعثون على نياتهم) - إلى أن قال - وفي لفظ البخاري عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) - إلى أن قال - فالله تعالى أَهلَكَ الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته - المكره فيهم وغير المكره - مع قدرته على التميِيزِ بينهم - مع أنه يبعثهم على نياتهم، فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين الْمُكْرَه وغيره وهم لا يعلمون ذلك؟! بل لو ادعى مُدَّع إنه خرج مُكرها لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه، كما روى: إن العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسَرَه المسلمون يوم بدر: يا رسول الله! إني كنت مكرها. فقال: (أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله)".
وقال رحمه الله في موضع آخر:
"ونحن لا نعلم المُكْرَه، ولا نقدر على التمييز، فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين، وكانوا هم على نياتهم، فمن كان مكرها لا يستطيع الامتناع فإنه يُحشر على نيته يوم القيامة، فإذا قتل لأجل قيام الدين لم يكن ذلك بأعظم من قَتْلِ من يُقْتَل من عسكر المسلمين".
قلت: وقد فصلت في الرسالة الأخرى شروط الإكراه المعتبرة شرعا لموافقة الكفار على ما يريدون، وأن هذه الشروط لا تتوفر في الغالبية العظمى من أعوان هؤلاء الحكام، وذكرت أيضا أن الإكراه لا يكون عذرا مبيحا لقتل المسلم بإجماع العلماء بلا مخالف. فكيف بمن يتتبع المسلمين ويقتلهم لنصرة الكافر؟
الحال الثاني: أن يكون المسلمون في صف العدو متميزين ظاهرا، معلومين لجند الإسلام فهذه هي مسألة التترس، قال ابن تيمية رحمه الله:
"بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا، فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على مسلمين إذا لم يقاتلوا: فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار، ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء، ومن قتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله - وهو في الباطن مظلوم - كان شهيدا، وبُعِث على نيته، ولم يكن قَتْلُه أعظم فسادا من قَتْلِ من يُقْتَل من المؤمنين المجاهدين، وإذا كان الجهاد واجبا وإن قُتِلَ من المسلمين ما شاء الله، فَقَتْلُ من يُقْتَل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا، بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المُكْرَه في قتال الفتنة بكسر سيفه، وليس له أن يُقَاتِل وإن قُتِل".
والذين يقولون بشرط تَمَيُّز الطائفة الكافرة عن المسلمين لهم شبهة، حيث يستدلون بقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، ومعناها: أي: ولولا أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بمكة من المستضعفين، لا تعلمونهم أيها المسلمون، وإذا قاتلتم أهل مكة يوم الحديبية لكان من الممكن أن تقتلوا بعض هؤلاء المؤمنين وتصيبكم من هذا معرة (أي: عيب وإثم)، {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: تَمَيَّز وانفصل المؤمنون عن الكفار لعذب الله الكفار بالقتل وغيره.
فاستدل البعض بهذه الآية على أن مخالطة المؤمنين للكافرين مانعة من قتال الكافرين وعُذْر في ترك قتال الكافرين، لما ينتج عنه من قتل بعض المؤمنين المخالطين، وكما لا يخفى، فهذا القول يفضي إلى تعطيل الجهاد بنوعيه (قتال الطلب وقتال الدفع) فما من بلد الآن إلا به مسلمون مخالطون للكفار بنسب مختلفة، يوجد مسلمون بالصين والهند وروسيا وأمريكا وغيرها وكلها ديار كُفْر، أفيمنع هذا من جهادهم عند الاستطاعة؟
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
الأول: أن المنع من القتال يوم الحديبية كان منعا قدريا، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قَصَد مكة معتمرا، فعزم أهل مكة على مَنْعِه من دخولها، فَعَزَم على قِتَالهم إن هم منعوه بعد مشاورة مع الصحابة، كما رواه البخاري: "قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ قَالَ امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا العزم إلى أن توقفت ناقته عن المسير، فقال بعض الصحابة: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطَّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، أي: منعها عن المسير إلى مكة الذي حبس الفيل وأبرهة عن مكة سبحانه وتعالى، فهذا منع قدري، فعَلِم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لم يأذن في هذا، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قَبول الصلح، وشَرع فيه، ثم بلغه مقتل سفيره إلى أهل مكة وهو عثمان رضي الله عنه، فعندها عزم على القتال مرة أخرى وأخذ البيعة من أصحابه وهي بيعة الرضوان على ألا يفروا أو على الموت، ثم أُطْلِق عثمان وشاء الله تعالى أن يمضي الصلح، كل هذا والآية المُسْتَدل بها بل والسورة كلها (سورة الفتح) لم تكن قد نزلت بعد، وإنما نزلت عند الإنصراف من الحديبية، وكما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على القتال مرتين، الأولى عندما مَضَى فحُبِسَت ناقته والثانية عندما أَخَذَ البيعة، ومع عزمه على القتال في المرتين كان صلى الله عليه وسلم يعلم بوجود مؤمنين مستضعفين في مكة وكان يعلم بعضهم عَيْنًا وكان يدعو لهم بالنجاة، فلم يمنعه وجود المستضعفين من العزم على القتال، بل القتال واجب لاستنقادهم، لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ...}، ولكن الله لم يأذن في القتال قدرا لا شرعا، إذ لو مُنِع شرعا (بالوحي) لما مَضَى ولما أخذ البيعة، وهذا المنع القدري لحكمة يعلمها الله تعالى منها وجود المستضعفين بمكة ومنها أن الصلح ترتب عليه نفع عظيم إذ أَمِن الناس فدخل في الإسلام أضعاف من دخله قبل، كما في الآية: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، حتى سمى الله تعالى هذا الصلح فتحا كل هذا في بيان أن منع القتال يوم الحديبية كان منعا قدريا.
وفي إبطال الاحتجاج بالقدر قال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" 2/ 323-326: 
"وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر، بل القدر يُؤْمن به ولا يُحْتَج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين، متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرا، لزم أن لا يُلام أحد، ولا يعاقب ولا يُقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه - إذا ظُلِم في نفسه وماله وعرضه وحرمته - أن لا ينتصر من الظالم، ولا يغضب عليه، ويذمّه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة، لا يمكن أحدا أن يفعله، فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.
ولو كان القدر حجة وعذرا: لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزا، ولا إقامة الحدود جائزا، ولا قطع السارق، ولا جلد الزاني ولا رجمه، ولا قتل القاتل ولا عقوبة مُعْتَدٍ بوجه من الوجه - إلى أن قال رحمه الله - فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر".
الوجه الثاني: الخصوصية، وهي أن هذا المنع من القتال لاختلاط المؤمنين بالكفار في مكة كان خاصا بقصة الحديبية دون غيرها، ولا يستدل به على ما شابَهَهَا، وهذا القول بالخصوصية إن شاء الله تعالى هو الصواب، والله تعالى أعلم، ودليل ذلك:
* أن الله سبحانه منع رسوله صلى الله عليه وسلم من غزو مكة يوم الحديبية (سنة 6 ه) منعا قدريا، ثم أَذِنَ له في غزوها بعد ذلك بسنتين يوم فتح مكة (سنة 8 ه) إذنا شرعيا، والبلد هو البلد (مكة)، والمستضعفون لم يزل بعضهم بمكة كابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: "لما فَتَحَ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حَبَسَ عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن لأحد من بعدي".
وبهذا تعلم أن المنع يوم الحديبية كان خاصا لأن نفس البلد أحل بعد ذلك، والبلد هو البلد، والمستضعفون لم يزل بعضهم بها.
* ومما يدل على الخصوصية أيضا أن هناك مواقف خالط فيها المؤمنون الكافرين والعصاة، ووقع القتل أو العذاب بالجميع، ولم يَحُل دون ذلك منع قدري من الله تعالى كما حدث يوم الحديبية، فدل هذا على خصوصية النص بقصة الحديبية، ولا مانع من أن يحدث مثله قدرا، أما شرعا فليس بحجة، ومن المواقف التي حدثت فيها المخالطة ولم يمنع القتل أو العذاب قدرا ما يلي:
ما رواه أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله، قال:
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خَثْعَم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى نارهما".
ومنها حديث البيداء المذكور في كلام ابن تيمية السابق، فهذا الجيش أهلكه الله تعالى مع أن فيهم المُكْرَه ومن ليس منهم.
ومنها ما رواه البخاري (7108) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنزَلَ الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم".
ومنها ما رواه البخاري (7059) عن أم المؤمنين زينب بنت جحش قال: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث".
ومنها ما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة مرفوعا: "إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون، قُبِضُوا معهم ثم بُعِثُوا على نياتهم وأعمالهم".
وهذه الأحاديث كلها في معنى حديث البيداء.
قلت: والقول بالخصوصية ليس معناه أن المؤمن المخالط للكافرين لا حرمة له أو أنه مهدر الدم، لا بل هو معصوم بإيمانه أينما كان، وإنما القول بالخصوصية معناه أن هذه المخالطة ليست بمانعة من قتال الكافرين وإن تيقن أن بينهم مسلمين سيقتلون ضمنا، وذلك إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك، وهذا هو ما استقر عليه قول جمهور الفقهاء، ويجب أن يشاع هذا العلم في المسلمين كي يَحْذَروا من مخالطة الكافرين، وفي تفسير قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أورد القرطبي أن مالكا رحمه الله لا يرى رمي المشركين إذا علم أن بينهم مسلمين مستدلا بهذه الآية، وقال إن أبا حنيفة أجاز ذلك، ثم قال القرطبي: "قد يجوز قتل التُّرس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية، فمعنى كونها ضرورية، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس، ومعنى أنها كلية، أنها قاطعة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قَتَلَ الكفارُ الترسَ واستولوا على كل الأمة ومعنى كونها قطعية، أن تلك المصلحة حاصلة من قَتْل الترس قطعا، قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يُخْتَلَف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين، وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون، ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يُقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نَفَرَت منها نفس من لم يُمْعِن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما يحصل منها عدم أو كالعدم، والله أعلم".
قلت: وهذا كلام يَشْفي العليل ويَرْوى الغليل، فإنه لا خلاف بين الأمة في وجوب حفظ الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والنسل (النسب) والعقل والمال، ولا خلاف في أن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس، ولهذا شُرِع الجهاد لحفظ الدين مع أن فيه ذَهَاب الأنفس والأموال، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعدًا عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاة وَالإِنْجِيل وَالقُرْآن}، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
ولا شك أن الضرر النازل بالمسلمين من تسلط الحكام المرتدين عليهم، وما في ذلك من الفتنة العظيمة، هذا الضرر يفوق أضعافا مضاعفة قتل بعض المسلمين المكرهين في صف العدو أو المخالطين له عن غير قصد حال القتال، إن كثيرا من بلدان المسلمين تسير في طريق الردة الشاملة من جراء هؤلاء، فأي فتنة أعظم من هذا، هذه فتنة تفوق ما يصيب المسلمين بالجهاد من قتل أو سجن أو تعذيب أو تشريد، قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ}، وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}، فيجب دفع المفسدة
العظمى (فتنة الكفر والردة) بتحمل المفسدة الأخف (وهو ما يترتب على الجهاد من قتل وغيره) وهذا هو المقرر في القواعد الفقهية الخاصة بدفع الضرر، كقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقاعدة (يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) وقاعدة (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف) وقاعدة (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا) وقاعدة (يُختار أهون الشرين) وغيرها، وقال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 355:
"وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}، أي: أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه".
ألا ترون إلى ما يجري للمسلمين في كثير من البلدان؟ تستباح دماؤهم وأموالهم بأحكام الكفر، مع إشاعة الفجور والفواحش والتجهيل المعتمد بالدين والاستهزاء بالإسلام وأهله، ليشب النشئ على صلة باهتة بدينه، أي فتنة أعظم من هذا، وماذا بقي للمسلمين؟ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.


٭ ٭ ٭





(29) الرد على شبهة لا جهاد بلا إمام




يثير البعض شبهة وهي كيف نجاهد وليس للمسلمين خليفة؟ وهي شبهة أوحى بها الشيطان للمخذلين والمثبطين عن الجهاد في هذا الزمان، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، إنه في غياب الحكم الإسلامي والخلافة لو اجتمعت طائفة من المسلمين على القيام بواجبات الدين، فهذا واجب في حد ذاته، فإنه يتعين على جماعة المسلمين أن يختاروا الأمير بأنفسهم، ومن أمثال هذا:
- إذا فقد الأمير المُعَيَّن من جهة الإمام (بقَتْل أو أَسْر أو عَجْز) ولم يتمكن المسلمون من مراجعة الإمام، ولم يكن لهم عدة أمراء على الترتيب أو انتهوا.
- إذا شرع المسلمون أو طائفة منهم في عمل من الأعمال الجماعية (خاصة التدريب والجهاد) ولم يكن للمسلمين إمام كما هو الحال في زماننا الآن.
فعلى المسلمين أن يختاروا أحدهم للإمارة ولا يصح أن يعملوا بدون إمارة، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم سلطة التأمير هذه بقوله: "فليؤمِّروا" من حديث "إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ" أخرجه أبو داود (2608)، وأبو عوانة (7538) من حديث أبي سعيد الخدري [[1]].
فأسند صلى الله عليه وسلم سلطة التأمير إلى هذا الجمع الذي اجتمع على أمر مشترك بينهم وهو السفر.
ويستدل أيضا بفعل الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة مؤتة بعد مقتل الأمراء الثلاثة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فاتفقوا على تأمير خالد بن الوليد، وقد رَضِيَ النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا.
روى البخاري (3063) بسنده عن أنس رضي الله عنه:
"قال خَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح الله عليه، وما يسرهم أنهم عندنا. قال أنس: وإن عينه لتَذْرِفان".
وفي رواية أخرى للبخاري (4362) عن أنس: "حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم".
قال ابن حجر في "الفتح" 7/ 512:
"ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فالتوى بها بعض الالتواء ثم تقدم على فرسه ثم نزل فقاتل حتى قتل ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم الأنصاري، فقال اصطَلِحوا على رجل، فقالوا: أنت لها، فقال: لا، فاصطلحوا على خالد بن الوليد وروى الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري قال: أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب عبد الله بن رواحة، فدفعها إلى خالد بن الوليد، وقال له: أنت أعلم بالقتال مني".
وقال ابن حجر أيضا 7/ 513:
"وفيه جواز التأمر في الحرب بغير تأمير - أي بغير نص من الإمام - قال الطحاوي: هذا أصل يؤخذ منه على المسلمين أن يقدموا رجلا إذا غاب
الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر".
وقال ابن حجر كذلك 6/ 180:
"قال ابن المنير: يؤخذ من حديث الباب أن من تعيّن لولاية وتعذرت مراجعة الإمام أن الولاية تثبت لذلك المعيَّن شرعا وتجب طاعته حكما. كذا قال، ولا يخفى أن محله ما إذا اتفق الحاضرون عليه".
وقال ابن قدامة في "المغني" 10/ 374:
"فإن عدم الإمام لم يُؤخَر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع، قال القاضي: ويؤخر قسمة الإمام حتى يظهر إمام احتياطا للفروج، فإن بعث الإمام جيشا وأَمَّر عليهم أميرا فقُتل أو مات، فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة لما قتل أمراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أمَّروا عليهم خالد بن الوليد، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرَضِيَ أَمرهم وصَوَّبَ رأيهم، وسمى خالدا (سيف الله)".
فالواجب على المسلمين أن يؤمروا أحدهم عليهم للجهاد في غياب الإمام، وهذا قول البخاري - كتاب الجهاد: باب من تأمَّر في ا لحرب بغير إمرة -
وقول ابن حجر، والطحاوي، وابن المنير، وابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية - كما تقدّم آنفا - وعمدة هذه المسألة هو حديث غزوة ومؤتة حيث أمَّر الصحابة خالدا عليهم لما قُتِل أمراؤهم وهم في غيبة عن الإمام (النبي صلى الله عليه وسلم) فرَضِيَ النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا [[2]].
وهناك دليل آخر، وهو حديث عبادة بن الصامت: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
فهاهو الخليفة أو الإمام قد كَفَر وسقطت ولايته، ويجب الخروج عليه وقتاله وعزله ونصب إمام عادل، وهذا واجب بإجماع الفقهاء كما نقل ذلك النووي في "شرح صحيح مسلم" 12/ 229، وابن حجر في "الفتح" 13/ 7 و  8 و 123، فهل نقول لا نخرج على الحاكم الكافر إذ لا إمام، ومن أين لنا الإمام وقد كَفَر ووجب الخروج عليه؟! أم ننتظر إمامًا مُغَيَّبا ونترك المسلمين لفتنة الكفر والفساد؟ أيقول بهذا مسلم؟ إن الحديث السابق فيه تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بمقاتلة الإمام والخروج عليه إذا كَفَر، فنحن نسأل أصحاب هذه الشبهة كيف يُقاتِل المسلمون في هذه الحالة حيث لا إمام؟ والرد الشرعي هو أن يفعلوا كما فعل الصحابة في مؤتة فيؤمروا أحدهم، وهذه الشبهة هي من صميم اعتقاد الشيعة وَرَدَ في العقيدة الطحاوية: "(والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين...) قال الشارح: يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الرافضة حيث قالوا: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد، وينادي مناد من السماء: اتبعوه!! وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدل عليه بدليل" "شرح العقيدة الطحاوية" (ص 437).
ومع أن الشيعة خالفوا هذه العقيدة مع بَدء ثورة الخميني وهذا من أظهر الأدلة على فساد هذا الاعتقاد الذي مازال مكتوبا في كتبهم، فالعجيب هو أن تعلق هذه الشبهة ببعض المنتسبين إلى أهل السنة، روى مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعا: "لن يبرح هذا الدين قائما يُقاتِل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة".
أليس (لن يبرح، ولا تزال) أفعال تفيد الاستمرار؟!
أي استمرار القتال على الدين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى أنه سيأتي على المسلمين زمان لا يكون لهم فيه إمام، ومع ذلك فقد نص صلى الله عليه وسلم على استمرار القتال، فالجهاد في سبيل الله لا يتوقف بسبب غياب الإمام، بل يؤمِّر المسلمون أحدَهم كما في حديث مؤتة، بل إن غياب الإمام هو من دوافع الجهاد لِنُصْبَة الإمام الذي يقيم الشريعة ويحوط الملة، وعلى كل مسلم في هذه الحالة أن يعتصم بهذه العصابة المذكورة في حديث جابر بن سَمُرة وهي الطائفة المنصورة.
وقد يظن البعض أنه لم يكن المسلمون بلا خليفة إلا في زماننا هذا، وهذا خطأ، بل قد مرت على المسلمين أزمنة لم يكن لهم فيها خليفة، ومن أشهر تلك الأزمنة السنوات الثلاث من 656 هـ (وفيها قَتَلَ التتار الخليفة العباس المستعصم ببغداد) إلى 659 هـ (وفيها بويع أول خليفة عباسي بمصر) انظر "البداية والنهاية" 13/ 231، ورغم انعدام الإمام إذ ذاك فقد خاض المسلمون معركة هي من مفاخر المسلمين إلى اليوم وهي معركة عين جالوت ضد التتار في 658 هـ، حدث هذا في توافر أكابر العلماء كعز الدين بن عبد السلام وغيره ـ
ولم يقل أحد كيف نجاهد وليس لنا خليفة؟ بل إن قائد المسلمين في هذه المعركة (سيف الدين قطز) كان قد نَصَبَ نفسه بنفسه سلطانا على مصر بعد أن عزل ابن أستاذه من السلطنة لكونه صبيا صغيرا، ورضي بذلك القضاة والعلماء وبايعوا قطزا سلطانا، وعَدَّ ابن كثير فعل قطز هذا نعمة من الله على المسلمين إذ به كسرَ الله شوكةَ التتار. انظر "البداية والنهاية" 13/ 216.
كما عد ابن تيمية هذه الطوائف التي قاتلت التتار في تلك الأزمنة من الطائفة المنصورة، فقال كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 531:
"أما الطائفة بالشام ومصر ونحوهما فهم في هذا الوقت المقاتلون عن دين الإسلام وهم من أحق الناس دخولا في الطائفة المنصورة".
وهذه القصة، من سيرة السلف الصالح فيها رد على شبهة (لا جهاد بلا إمام) بالإضافة إلى الأدلة النَّصَّية وهي حديث غزوة مؤتة وحديث عبادة بن الصامت فيما إذا كفر الإمام، وهذه الشبهات سنة قدرية كانت ومازالت ولن تزال طالما وُجِدت طائفة مجاهدة قائمة بأمر الله - وهي باقية إلى نزول عيسى عليه السلام - قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" متفق عليه.
وقال تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة، الآية: 54]، وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجاهدين بالظهور بأن المخذلين والمخالفين لن يضروهم، وإنما هي فتن تتميز بها الصفوف.


٭ ٭ ٭
______________________ 
[1] - أراد أحدهم إبطال قياس الإمارة على الجماعات على إمارة السفر بستة وجوه، فقال:
"1 - إمارة السفر فيها نص صريح صحيح، أما هذه الإمارة فلا نص عليها، والقياس بعيد لانتفاء العلة، ولا يكون إلا لمجتهد، كما نص الأصوليون.
2 - تنتهي إمارة السفر بانتهائه، بخلاف الإمارات الاستثنائية ذات [كمال الطاعة]!
3 - إمارة السفر مصلحة كلها، أما الإمارة الاستثنائية الأخرى فهي تفرق وتفسد فالقياس ظاهر بالبطلان!
4 - لو اتفق أناس فيما بينهم على إقامة الحدود على شارب الخمر والزاني وغير ذلك، فهل هذا يُقْبَل؟ هو باطل بإجماع الأمة من المحالفين والمخالفين فهذا قياس يبطل ذلك القياس!!
5 - إمارة السفر محدودة بأمور، فهي للترتيب، لا للسمع والطاعة بكمالهما!!
6 - أما أنها (عهد) فهذا لم يكن من منهاج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بل كان واقعهم خلاف ذلك تماما ... الخ".
الرد عليه سيكون بترقيم كلامه، وصورته (رقم كذا) ثم نتبعه بالرد:
رقم (1 - إن إمارة السفر فيها نص صريح بخلاف الإمارة على الجماعات ولا تقاس الثانية على الأولى لانتفاء العلة، والقياس لا يكون إلا لمجتهد) جوابه من عدة وجوه أجملها:
الأول: أن إمارة الجماعات لا ترتكن على إمارة حديث السفر فقط بل هناك أدلة أخر.
الثاني: أن قياس إمارة الجماعات على إمارة السفر هو قياس صحيح للعلة المشتركة.
الثالث: أن هذا القياس قد ذكره أكثر من مجتهد.
أما الأول: وهو أن هناك أدلة أخر على شرعية إمارة الجماعات، فسبب نشأة هذه الجماعات التي يعنيها هو غياب الحكم الإسلامي وعدم وجود إمام للمسلمين، فلو اجتمعت طائفة من المسلمين في مثل هذا الحال على القيام بواجبات الدين، وهذا واجب في حد ذاته، لوجب على هذه الطائفة تأمير أحدهم عليهم:
أ - لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ولقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}، فلا بد للناس من ولاة يَجْمَعون شملهم ويقومون بشئونهم وينظمون أعمالهم بدلالة الإشارة إلى هاتين الآيتين، ولا يحل للمسلمين أن يبقوا في طاعة الحكام الكافرين ما استطاعوا
ذلك، كما ذكرت في شروط الإمارة أنه لا ولاية لكافر على مسلم، وكل متبوع من السلطان أو العلماء أو أمراء الجماعات أو غيرها فهو داخل في هذه الآية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 180:
"وكل من كان متبوعا فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا
يطيعه في معصية الله".
ب - فإذا كانت جماعة من الجماعات قائمة لأجل الجهاد في سبيل الله، فلا حاجة لنا في اللجوء إلى القياس على إمارة السفر طالما لدينا نص خاص في المسألة، إذ القياس
اجتهاد ولا اجتهاد مع النص، والنص المقصود هو حديث غزوة مؤتة وتأمير الصحابة
لخالد بن الوليد.
وأما الوجه الثاني: وهو أن قياس إمارة الجماعات على إمارة السفر هو قياس صحيح للعلة المشتركة.
فنقول القياس هو إثبات حكم مثل حكم الأصل في الفرع بعلة متحدة، والأصل هو الواقعة التي ورد حكمها بالنص الشرعي، والفرع: التي لم يرد بحكمها نص شرعي، والعلة هي الوصف الظاهر المنضبط المناسب المتعدي الذي بُني عليه حكم الأصل وبتحقق هذا الوصف في الفرع يثبت له مثل حكم الأصل.
وفي موضوعنا: الأصل المنصوص على حكمه هو اجتماع ثلاثة على سفر، والحكم هو وجوب الإمارة (وجوب تأمير أحدهم عليهم)، والفرع هو إمارة الجماعات، فهل علة
حكم الأصل متحققه في الفرع حتى يثبت له نفس الحكم أم لا؟
فالبحت الآن هو في: ما هي العلة في إمارة السفر؟ وهي التي لم يذكرها الْمُبطل.
والحق أن العلة ثابتة بالنص في نفس الحديث ولكنها مفتقرة إلى تنقيح المناط لتعدد الأوصاف المترتب عليها الحكم في الحديث، فيجب تحديد أي هذه الأوصاف هو المؤثر في الحكم؟
والأوصاف التي انبنى عليها الحكم في حديث إمارة السفر، هي وصفان: السفر واجتماع ثلاثة من الناس على أمر جامع بينهم.
فإذا أثبتنا بالنص أن إمارة السفر لا تجب لما دون الثلاثة كما في سفر اثنين من الناس، فيكون الوصف المؤثر في الحكم هو العدد (الثلاثة) لوجود وصف السفر في سفر الإثنين
وتخلف الحكم وهو وجوب الإمارة، فلو كان السفر هو العلة لوجب حكم الإمارة في سفر الإثنين، وبالتالي ندرك أن الحكم (الإمارة) مترتب على العدد (الثلاثة كحد أدنى)
وليس على السفر.
فما هي النصوص التي وجد فيها سفر ما دون الثلاثة ولم تجب فيها الإمارة؟
نقول منها ما روى البخاري (2848) في كتاب الجهاد - (باب سفر اثنين)، عن مالك بن الحويرث قال: "انصرفت من عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لنا، أنا وصاحب لي، أذنا
وأقيما وليؤمكما أكبركما".
فهذا الحديث وجد فيه وصف السفر ولم يوجد فيه وصف العدد وهو الثلاثة، ولم يوجد فيه الحكم بالإمارة أي لم يُؤَمِّر الرسول صلى الله عليه وسلم أحدهما ولا أوكل هذا إليهما، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فدل هذا على أن الإمارة كحكم مرتبطة بالعدد (الثلاثة كحد أدنى) وليست مرتبطة بالسفر.
ومما يدل على تعلق الإمارة بالعدد لا بالسفر قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأَمَّرَن على اثنين ولا تَولَّين مال يتيم" أخرجه مسلم.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تأَمَّرَن على اثنين) يدل على أن الإمارة تجب على الثلاثة فصاعدا، وهذا يرجح أن وجوب الإمارة في حديث السفر متعلق بالعدد وليس بالسفر.
قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمِّروا" فالإمارة لا تجب إلا على ثلاثة فصاعدا، ويعضد هذا، وهو ارتباط الإمارة بالعدد وأقله ثلاثة، ما رواه البخاري (7098) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: "وما أنا بالذي أقول لرجل - بعد أن يكون أميرا على رجلين - أنت خير، بعد ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار بِرَحَاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله".
وأسامة رضي الله عنه كان ينفي بهذا تهمة المداهنة عن نفسه كما في شرح الحديث، والشاهد من كلامه قوله: (أقول لرجل بعد أن يكون أميرا على رجلين) فبيَّن أقل ما تجب فيه الإمارة، وهو ثلاثة، أمير وتابعان، كما أن اللغة تعضد ما ذهبنا إليه من تعلق الإمارة بالعدد وليس بالسفر، فقد قال الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن":
"وقيل أَمِرَ القوم - بهمزة مفتوحة وميم مكسورة وراء مفتوحة - كَثُروا، وذلك لأن القوم إذا كثروا صاروا ذا أمير، من حيث أنهم لابد لهم من سائِس يسوسُهم، ولذلك قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم".
نتوصل مما سبق إلى حقيقتين:
إحداهما: أن إمارة السفر لا تجب لما دون الثلاثة، فلا تجب في سفر الاثنين، فالإمارة متعلقة بالعدد وليس بالسفر.
الثانية: أن أقل عدد تجب فيه الإمارة هو ثلاثة، لحديث أبي ذر: "لا تأمرن على اثنين" ولحديث أسامة بن زيد: "لرجل أن يكون أميرا على رجلين" وهذا العدد هو نفسه
المذكور في حديث إمارة السفر، فهذه الإمارة متعلقة بالعدد لا بالسفر وهذا هو تنقيح المناط.
فإذا توصلنا أن العلة هي العدد أي اجتماع ثلاثة من الناس على أمر جامع بينهم فهذه العلة متحققة ولا شك في سائر الجماعات، فتقاس بذلك إمارة الجماعات على إمارة
السفر.
فإن قيل: فما الحكمة من ذكر السفر في الحديث؟ فنقول إن المسافرين ينقطعون بالسفر عن نظر الإمام أو والي البلدة الذي يلي أمر المقيمين، فيجب على المسافرين أن يؤمروا منهم من يلي أمرهم، فالانقطاع عن نظر الإمام - بالسفر ونحوه - من دواعي نصب الأمير، وهذا يمكن أن يكون عِلَّة ثانية للحكم لولا أنه لم يستقل بالتعليل لوجود وصف الانقطاع عن نظر الإمام في سفر الاثنين مع تَخَلُّف الحكم بوجوب الإمارة، وعلى أي حال فإن هذا الوصف - وهو الانقطاع عن نظر الإمام لانعدامه الآن - هذا الوصف موجود بالنسبة للجماعة الإسلامية المعاصرة مما يزيد وجوب الإمارة عليهم توكيدا.
وأما الوجه الثالث: وهو أن هذا القياس صححه أكثر من مجتهد، وأن الإمارة واجبة، ودلت على ذلك:
1 - يقول الإمام الشوكاني، حيث استدل بحديث إمارة السفر على وجوب نصبة ولاية القضاء والإمارة وغيرها، ولم يذكر في هذا الباب حديثا غيره، وقد قاس هذه
الولايات على إمارة السفر، فقال بعد أن ذكر روايات حديث إمارة السفر، فقال في "نيل الأوطار" 9/ 157:
"وفيها دليل على أنه ُيشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدا أن يؤمروا عليهم أحدهم لأن في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلاف فَمَعَ عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه وبفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يقل الإختلاف وتجتمع الكلمة وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الأرض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والأمصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى وفي ذلك دليل لقول من قال إنه يجب على المسلمين نصب الأئمة والولاة والحكام".
فذكر أن الحكم (وجوب الإمارة) مترتب على العدد حيث قال: (يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدا أن يؤمروا عليهم أحدهم) وذكر الشوكاني أن هذا يجب على المقيمين من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
2 - واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية بحديث إمارة السفر على وجوب الإمارة في سائر أنواع الاجتماع، فهو ينص بذلك على أن علة الإمارة هي اجتماع، وقد ذكر هذا في أكثر من موضع من فتاويه فقال في رسالة "الحسبة" (ص 1-3):
"وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون والتناصر على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم، ولهذا يقال:
الإنسان مدني بالطبع، فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها ويجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة: ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد، والناهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا يد لهم من طاعة آمر وناه - إلى أن قال - ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى، ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) وفي سننه أيضا عن أبي هريرة مثله.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا أحدهم).
فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولي أحدهم: كان هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك".
وقال رحمه الله في رسالة "السياسة الشرعية" (ص 129):
"يجب أن يُعْرَف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم).
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم).
فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة".
قلت: فانظر إلى قول شيخ الإسلام (فهو تنبيه على أنواع الاجتماع) وقد كرر هذا في سائر المواضع، فهو ينص على أن الإمارة للاجتماع لا لمجرد السفر، وهذان مجتهدان (ابن تيمية والشوكاني) لا خلاف بين المسلمين على إمامتهما ومنزلتهما في العلم، قد نَصَّا على أن عِلة الإمارة هو الاجتماع وقاسا إمارة سائر أنواع الاجتماع على إمارة السفر، وأنها من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، بالإضافة إلى ما سبق فإن إيراد أبي داود لهذا الحديث في كتاب الجهاد من سننه فيه إشارة منه إلى ما ذهبنا إليه.
وبهذا نكون قد استكملنا الأوجه الثلاثة في الرد على الاعتراض الأول.
رقم (2 - أن إمارة السفر تنتهي بانتهائه ... الخ) حجة عليه إذ إن الجماعة الدائمة أولى بالإمارة لضبط أحوالها من الجماعة المؤقتة العارضة كجماعة السفر.
رقم (3 - أن إمارة السفر مصلحة كلها بخلاف غيرها) كلام لم يثبته بدليل شرعي وهو ما يجب الرد إليه عند التنازع، وبالتالي هو قولٌ مردود عليه، وتعميم لا أساس له من الشرع وهو قوله: إن الإمارات الأخرى تُفرق وتُفسد. نريد دليلا شرعيا لا من الواقع.
رقم (4 - لو اتفق أناس فيما بينهم على إقامة الحدود ـ إلى قوله ـ هو باطل بإجماع الأمة) أقول في الرد عليه: لو اتفق أناس فيما بينهم على إقامة الأحكام الشرعية، فلا يخلو أن يكون حالهم أحد الحالتين: الأول أن يكونوا في بلد يحكمه إمام مسلم وتجري عليه أحكام الشريعة، والثاني: أن يكونوا في بلد ليس له إمام مسلم ولا تحكمه الشريعة.
ففي الحال الأول: في دار الإسلام التي تعلو أحكام الشريعة ويحكمها إمام مسلم ويتولى فيها القضاة المُعيَّنون من قِبَل الإمام الحُكْمَ بين الناس، أقول حتى في هذه الحالة يجوز للناس أن يتحاكموا إلى رجل مؤهل للقضاء برضاهم بخلاف قاضي الإمام وتلزمهم أحكامه، وهذا ما قرره السادة الفقهاء كما يلي:
* قال ابن ضويان في شرح الدليل:
"(فلو حَكَّمَ اثنان فأكثر بينهما ما شخصا صالحا للقضاء: نَفَذَ حُكْمُه في كل ما ينفذ فيه حكم من وَلاَّه الإمام أو نائبه) لحديث أبي شريح، وفيه أنه قال "يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فَرَضِيَ كلا الفريقين. قال ما أحسن هذا!) رواه النسائي.
وتحاكم عمر وأُبَيٌ إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد منهما قاضيا) -ـ قال في المتن - (ويَرْفَعُ الخِلافَ، فلا يحل لأحد نقضه حيث أصاب الحق) - قال في الشرح - لأن من جاز حكمُه لَزِمَ كقاضي الإمام.
* وفَصَّل ابن قدامة هذه المسألة في كتابه الكافي، وفي كتابه المغني، وإليك كلامه في المغني:
"(فصل) وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حَكَّماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم بينهما، جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة وللشافعي قولان (أحدهما) لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما، لأن حكمه غنما بالرضى به ولا يكون الرضى إلا بعد المعرفة بحكمه.
ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له (إن الله هو الحَكَم فلِم تُكَنَّى أبا الحكم؟) قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكَمْتُ بينهم ورَضِيَ عَلَيَّ الفريقان، قال: ما أحسن هذا فمن أكبر ولدك؟ قال شريح قال فأنت أبو شريح" أخرجه النسائي.
ورُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من حكم بين اثنين تَرَاضيَا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون" ولولا أنه حكمه يلزمهما لما لَحِقَه هذا الذم، ولأن عمر وأُبَيًّا تحاكما إلى شريح قبل أن يوليه، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة.
فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا، قلنا لم ينقل عنهما الرضى إلا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يصير قاضيا، وما ذكره بما إذا رضي بتصرف وكيله فإنه يلزمه قبل المعرفة به، إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: للحاكم نقضه إذا خالف رأيه لأن هذا عقد في حق الحاكم فمَلَك فسخه كالعقد الموقوف في حقه، ولنا أن هذا حكم صحيح لازِمٌ فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية، وما ذكروه غير صحيح فإن حكمه لازم للخصمين فكيف يكون موقوفا؟ ولو كان كذلك لملك فسخه وإن لم يحالف رأيه ولا نسلم الوقوف في العقود.
إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخَصْمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم لأنه لا يثبت إلا برضاه، فأشبه ما لو تراجع عن التوكيل قبل التصرف، وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع (والثاني) ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحَكَم ما لا يوافقه رجع فبطل المقصود به.
(فصل) قال القاضي: وينفذ حُكْمُ من حَكَّماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء: النكاح واللعان والقذف والقصاص لأن هذه الأحكام مَزِيَّة على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم مقامه، وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه فيها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، وإذا كتب هذا القاضي بما حَكَمَ به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه، لأنه حاكم نافذ الأحكام، فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام". انتهى كلام ابن قدامة في المغني.
* وقال ابن قدامة في "الكافي":
"واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان، قياسا على قاضي الإمام، وقال القاضي:
يجوز حكمه في الأموال الخاصة، فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام كالحدود".
قلت: وقول ابن المنذر - وسيأتي - يشبه قول أحمد بن حنبل في أنه يجوز التحكيم في جميع الخصومات، ونقل الإجماع على ذلك، وسبق قول صاحب منار السبيل أن حُكْمْ الحَكَم ينفذ في كل ما ينفذ فيه حكم قاضي الإمام ولم يذكر الخلاف في ذلك، فدل على أن هذا هو القول الراجح عند الحنابلة.
* وقصة تحاكم عمر والأعرابي إلى شريح التي ذكرها ابن قدامة، أوردها ابن القيم في "إعلام الموقعين" 1/ 85، قال:
"قال علي بن الجعد: أنبأنا شعبة، عن سيار، عن الشَّعبي، قال: أخذ عمر فرسا من رجل على سوم، فحمل عليه فعطب، فخاصمه الرجل، فقال عمر:
اجعل بيني وبينك رجلا، فقال الرجل: إني أرضى بشريح العراقي، فقال شريح: أخذته صحيحا سليما فأنت له ضامن حتى ترده صحيحا سليما، قال: فكأنه أعجبه فبعثه قاضيا، وقال: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن من كتاب الله فمن السنة، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك".
* وقال إمام الحرمين الجويني:
"وقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في أن من حَكَّم مجتهدا في زمان قيام الإمام بأحكام أهل الإسلام، فلم ينفذ ما حكم به المحكم؟ فأد قوليه، وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه ينفذ من حكمه ما ينفذ من حكم القاضي الذي يتولى منصبه من تولية الإمام، وهذا قول متجه في القياس، لست أرى الإطالة بذكر توجهه".
* وما ادَّعاه الْمُبطِلُ من بطلان التحاكم لغير القاضي بإجماع الأمة، هو مردود عليه، بل قد ذكر الإمام أبو بكر بن المنذر في كتابه (الإجماع) عكس ما قاله هذا الْمُبطِلُ، فقال:
 "إجماع (254) وأجمعوا على أن ما قضى قاضي غير قاض، جائز إذا كان مما يجوز".
ومعنى قوله (قاضي غير قاض) أي قاضي غير معين من جهة الإمام، وقوله: (إذا كان مما يجوز) أي إذا كان ما حكم به هذا القاضي مما يجوز في الشريعة، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة، أو سلطانا، أو نائبا، أو واليا، أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له، حتى من يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا، هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر".
* ومن الأدلة على جواز التحكيم وسريان أحكام غير الإمام وقضاته، أن البغاة إذا استولوا على بلد وحكموه بالشرع وجبوا منه الأموال على مقتضى الشرع فإن أحكامهم هذه نافذة ولا ينقضها الإمام العدل إذا ظهر على هذا البلد، فقد قال ابن قدامة:
"إذا نصب أهل البغي قاضيا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل ينفذ من أحكام أهل العدل ويرد منه ما يرد ...".
وقال ابن قدامة أيضا:
"وإن استولوا - أي البغاة - على بلد فأقاموا فيها الحدود، وأخذوا الزكاة والجزية والخراج واحتُسِب به، لأن عليا لم يتتبع ما فعله أهل البصرة وأخذوه، وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى ساعي نجدة الحروري...".
وهذا ما قرره الجويني أيضا في "الكافي" 4/ 152.
فهذه أدلة جواز تحاكم الناس برضاهم إلى رجل مؤهل للحكم، بخلاف قاضي الإمام في دار الإسلام، حيث للمسلمين إمام يحكمهم وشريعة إسلامية تعلوهم، وقد نقل أبو بكر بن المنذر الإجماع على جواز ذلك، خلافا لما زعمه هذا الْمُبطِلُ.
تنبيه: الفرق بين الحَكَم والقاضي من عدة أوجه:
1 - الحَكَم لا يفتقر إلى ولاية من إمام مؤقت، بخلاف القاضي الذي لا يتولى إلا بولاية من الإمام.
2 - الحَكَم لا يحكم بين اثنين من الناس إلا برضاهما وتحاكمهما إليه مختارين، بخلاف قاضي الإمام الذي يحكم بين الخصوم رضوا أم لم يرضوا، وله أن يجبرهم على الحضور إلى مجلس القضاء وإن لم يختاروا، طالما بلغته الدعوة.
3 - الحَكَم ليس له عموم النظر في الخصومات ولا استدامته، إذ إن عموم النظر واستدامته معناه أنه ذو ولاية، فهذا للقاضي المتولي من جهة الإمام.
ويتفق الحَكَم والقاضي في وجوب استيفائهما لشروط القضاء، وفي أن حكمهما مُلزِم للخصوم، إلا أن القاضي يملك سلطة تنفيذ حكمه بالشرطة، والحَكَم قد لا يملك القوة
إن لزمت هذا فيما يتعلق بالحال الأول من هذه المسألة.
أما الحال الثاني: وهو إذا لم يكن للمسلمين إمام يحكمهم ولا قضاء شرعي يتحاكمون إليه، وهذا هو حال أغلب المسلمين اليوم، فلا أقول يجوز لهم، بل أقول يجب عليهم أن يرجعوا إلى من يصلح للقضاء الشرعي منهم ليحكم بينهم بشرع الله فإن لم يجدوا مؤهلا للقضاء اختاروا الأمثل فالأمثل ويحرم عليهم التحاكم إلى القوانين الوضعية الكفرية.
والدليل على صحة هذا: جميع ما ذكرته في الحال الأول، خاصة كلام الشيخ ابن ضويان في كتابه (منار السبيل) وكلام ابن قدامة في المغني، وبالإضافة إلى هذا:
* قال القاضي أبو يعلى:
"ولو أن أهل بلد قد خلا من قاضي أجمعوا على أن قلدوا عليها قاضيا، نظرت: فإن كان الإمام موجودا بطل التقليد، وإن كان مفقودا صح، ونفذت أحكامه عليهم، فإن تجدد بعد نظره إمام، لم يستدم النظر إلا بعد إذنه، ولم ينقض ما تقدم من حكمه، وقد نص أحمد رحمه الله تعالى على أن نفسَين لو حَكَّما عليهما نفذ حكمُه عليهما".
وموضع الاستشهاد هو قوله (إذا كان الإمام مفقودا صح أن يولي الناس عليهم قاضيا) أما قوله (إن كان الإمام موجودا بطل التقليد) فلا ينقض ما ذهبنا إليه في الحال الأول إذ إن تقليد القضاة من حقوق الإمام، وما ذكرناه في الحال الأول هو تحكيم حكم وليس تولية قاض، وقد ذكرت أوجه الاختلاف بين الحكم وبين القاضي أعلاه.
* وقد تكلم إمام الحرمين الجويني عن هذه المسألة بإسهاب فقال:
"وقد حان الآن أن أفرض خلو الزمان عن الكفاة ذوي الصرامة، خلوه عمن يستحق الإمامة - إلى قوله - أما ما يسوغ استقلال الناس فيه بأنفسهم، ولكن الأدب يقتضي فيه مطالعة ذوي الأمر، ومراجعة مرموق العصر، كعقد الجُمَع وجر العساكر إلى الجهاد، واستيفاء القصاص في النفس والطرف، فيتولاه الناس عند خلو الدهر - إلى قوله - وإذا لم يصادف الناس قواما بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقدرون عليه من دفع الفساد فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن، عم الفساد البلاد والعباد - إلى قوله - وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهي وذوي العقول والحجا، من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عند مناهيه ومزاجره فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إطلال الواقعات - إلى قوله - ثم كل أمر يتعاطاه الإمام في الأمور المفوضة إلى الأئمة فإذا شغر الزمان عن الإمام، وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد استبد أهل كل صقع وناحية باتباع عالمهم، وإن كثر العلماء في الناحية، فالمهم أعلمهم، وإن فرض استواؤهم، ففرضهم نادر لا يكاد يقع،
فإن اتفق فإصدار الرأي عن جميعهم مع تناقض المطالب والمذاهب محال، فالوجه أن يتفقوا على تقديم واحد منهم، فإن تنازعوا وتمانعوا وأفضى الأمر إلى شجار وخصام فالوجه عندي في قطع النزاع الإقراع، فمن خرجت له القرعة قُدِّم".
* ثم قال الجويني إنه إذا خلا الزمان عن العلماء المجتهدين ولم يبق إلا نقلة مذاهب الأئمة قال:
 "إن الفقيه الذي وصفناه يحل في حق المستفتي محل الإمام المجتهد الراقي إلى رتبة العليا في الخلال المرعية".
* وما ذكره الجويني من تولى نقلة المذاهب للفتوى عند خلو الزمان عن المجتهدين قرره ابن القيم فقال في "إعلام الموقعين" 4/ 196-197:
"إذا تفقه الرجل وقرأ كتابا من كتب الفقه أو أكثر، وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح، فهل يسوغ تقليده في الفتوى؟
فيه للناس أربعة أقوال: الجواز مطلقا، والمنع مطلقا، والجواز عند عدم المجتهد ولا يجوز مع وجوده، والجواز إن كان مطالعا على مأخذ من يفتي بقولهم والمنع إن لم يكن مطالعا.
والصواب فيه تفصيل، وهو أنه إذا كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا، ولا يحل لهذا أن ينسب نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم، وإن لم يكن في بلده أو ناحيته غيره بحيث لا يجد المستفتي من يسأله سواه فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يقدم على العمل بلا علم أو يبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عَمَاه وجهالته، بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها، ونظير مثل هذه المسألة إذا لم يجد السلطان من يوليه القضاء إلا قاضيا عاريا من شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض وولى الأمثل".
فهذه هي أقوال السلف فيما إذا خلا الزمان عن الإمام الأعظم أنه يجب على أهل كل بلد وناحية أن يتحاكموا إلى أهل العلم فيهم من المجتهدين فإن عُدِموا فيحتكموا إلى الأمثل فالأمثل، وخطاب الله بإقامة الأحكام موجه إلى مجموع الأمة قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}، وغيرها،
وينوب الإمام عن الأمة في تنفيذ هذا، كما في الحديث الصحيح "إنما الإمام جُنَّة" وفيه أيضا "فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته" فإذا فُقِد الإمام يرجع الخطاب إلى مجموع الأمة فيقدم الناس من يتحاكمون إليه ممن يصلح لهذا، وقال أحمد بن حنبل: لا بد للناس من حاكم، أفتذهب حقوق الناس؟
وذلك لأن نُصْبَة القضاة من فروض الكفاية لحفظ العدل وإن لم يقم به البعض أثم الكل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، وقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى هذا المعنى أوضح إشارة، وهو أن الأحكام والحدود مخاطب بها جميع الأمة، ويقيمها السلطان ذو القدرة، فإن عُدِم السلطان وأمكن إقامتها - إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها -
فهذا هو الواجب، فقال رحمه الله:
"خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا، كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}، وقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ}، وكذلك قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرا عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، وقد عُلِمَ
أن هذا فرض على الكفاية، وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد، فقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ}، وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} ونحو ذلك هو فرض على الكفاية من القادرين، و"القدرة" هي السلطان، فلهذا: وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه.
والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها، وعجز من الباقين، أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء إن أهل البغي يَنْفُذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم، وكذلك لو لم يتفرقوا، لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة، فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامَهم بذلك لم يسقط عنهم القيامُ بذلك، بل عليهم أن يقيموا ذلك، وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق، أو إضاعته لذلك: لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه، وإذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر، فإذا كان مُضَيِّعا لأموال اليتامى، أو عاجزا عنها: لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه، والأصل أن هذه الواجبات تُقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها مع أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من "باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع بأفسد منه. والله أعلم".
فهذه هي الأدلة الشرعية وأقوال علماء الأمة تثبت صحة تحاكم الناس إلى غير قاضي الإمام ممن يصلح للقضاء زمن قيام الإمام، ونقل ابن المنذر الإجماع على صحة هذا، وها هي أقوالهم تثبت صحة، بل وجوب اتفاق الناس على إقامة الأحكام بينهم ما أمكنهم ذلك زمن غياب الإمام، على أن يُحَكِّموا بينهم من يصلح للقضاء الشرعي الأمثل فالأمثل، وفي هذا رد كاف شاف، وإبطال لما ذكره الْمُبطِلُ، والواجب على المهتمين بالدعوة الإسلامية دعوة المسلمين إلى هذا لا صدهم عنه، فتحاكم المسلمين إلى عالم منهم واجب عليهم ما أمكنهم ذلك وخير لهم في الدنيا والآخرة من التحاكم إلى الطواغيت وأحكامهم الكافرة التي يستطل بها معظم المسلمين الآن فيأكلون أموالهم بينهم بالباطل، وتستباح بها الدماء والفروج.
ولا يحل لأحد دُعي إلى التحاكم إلى الشرع أن يُعرض عنه، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}، وقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَاتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}.
فتحاكم المسلمين إلى الشريعة بعيدا عن المحاكم الكافرة واجب عليهم، ونحن ندعو الناس إليه بقوة، ما أمكن ذلك، وإن تَعَذَّر في الحدود فليكن في الأموال وهكذا، وكل هذا يدخل في تقوى الله المستطاعة للعبد، ويدخل تحت القاعدة الفقهية (الميسور لا يسقط بالمعسور) وصاغها عز الدين بن عبد السلام هكذا:
"إن من كُلف بشيء من الطاعات فَقَدَر على بعضه وعجز عن بعضه، فإنه بما قدر عليه، ويسقط عنه ما عجز عنه".
وهذه القاعدة مستفادة من قوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم".
ومما يدخل في الاستطاعة إخراج الزكاة وإن عطلها الحكام، وأداء الديات وأروش الجراحات والكفارات وإن لم تحكم بها المحاكم الكافرة، وحُرْمَة الربا، ومما يتعلق بهذا مراعاة القيمة في القروض وفي البيع بالأجل وذلك لأن قيمة الأوراق المالية تتغير كثيرا بالزمن، فالواجب جعل أحد النقدين المعتبرين في الشريعة (الفضة والذهب) أساس هذه التعاملات، فمثلا إذا أقرضك رجل ألف ليرة اليوم وكان جرام الذهب اليوم بمائة ليرة فأنت اقترضت عشرة جرامات، فإذا كان أجل القرض سنة وكان جرام الذهب بعد سنة بمائتي ليرة ورددت إليه الألف ليرة فقد رددت إليه خمسة جرامات وظلمته ظلما فاحشا، والواجب عليك أن ترد إليه ألفي ليرة وعكسه إذا زادت قيمة الليرة ترد إليه أقل من الألف الأصلية كالحساب السابق، وهذا ليس من الربا في شيء بل هو رجوع إلى النقد المعتبر شرعا، فهذه الأوراق لا اعتبار لها شرعا إلا بتقييمها بالذهب أو الفضة، وهو ما يفعله كل مسلم عند إخراج زكاة المال...ولا يُفهم من قولي السابق إباحة ربا البنوك على هذه الأوراق بحجة تعويض نقص القيمة، فهذا ربا مكتمل الأركان محدد الفائدة سلفا حرام حرام، وما سبق من اعتبار القيمة لا يسري على الودائع فهذه ترد كما هي، وقد أشار الشيخ أحمد الزرقا إلى هذه المسألة في كتابه القواعد الفقهية، في قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ونَسَبَ هذا القول إلى القاضي أبي يوسف، وبهذا كنت وما زلت أنصح إخواني المسلمين، وأرى أن الله تعالى لا يمن على المسلمين بحكم إسلامي إلا إذا تحاكموا إلى الشرع بالقدر المستطاع في الظروف الحالية فإن سعوا في هذا فلعل الله تعالى أن ينجز وعده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.
وفي تحاكم المسلمين إلى الشرع في هذا الزمان فائدة أخرى وهي بقاء هذه الشريعة حية بخلاف ما يريده الطواغيت من إماتة الشريعة وحملتها، وكل هذا يمهد للحكم الإسلامي.
إن هذه القوانين الطاغوتية هي كفر أكبر مُخْرِج لمن وَضَعَها ولمن حَكَمَ بها ولمن تَحَاكَم إليها راضيا مختارا من ملة الإسلام، وهي من أنكر المنكرات، وأضعف الإيمان وهو الإنكار
بالقلب يستوجب على المسلمين مقاطعة هذه القوانين ومحاكمها وقضاتها والبراءة منهم، وأن يمتنعوا عن الدراسة في كليات الحقوق التي تدرس القوانين الكافرة.
رقم (5 - إمارة السفر محددة بأميال، فهي للترتيب لا للسمع والطاعة بكمالهما) وهذا مثل الذي قبله كلام لم يثبته بدليل شرعي، ومعلوم أن السمع والطاعة من مقتضيات أي إمارة صغرت أم كبرت واللغة تدل على ذلك: (الأمير هو ذو الأَمْر، وقد أَمَرَ يأمر بالضم: مختار الصحاح للرازي)، أما أن يحصرها في الترتيب فقط فهذا تقييد منه بلا دليل شرعي، ثم إنه لم يوضح ماذا يقصد بالترتيب؟ فإن كان يقصد - كما يتبادر إلى الذهن - أن عمل أمير السفر هو أن يحدد لمن معه ماذا يفعلون في اليوم الأول مرتبا ثم اليوم الثاني وهكذا، فنقول له إن أَتْبَاع الأمير إن نَفَّذوا ما رَتَّبه لهم فهم بذلك قد سمعوا له وأطاعوا، فآل الأمر إلى أن مقتضى الإمارة هو السمع والطاعة.
رقم (6 - أما أنها (عهد) فهذا لم يكن من منهاج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بل كان واقعهم خلاف ذلك تماما ... الخ) هنا أرد - بعون الله تعالى - على إنكاره للبيعة التي تأخذها هذه الجماعات من أتباعها، حيث أنكر شرعية هذه البيعات وعَدَّها من البدع، وأراد بذلك نقد جماعة معينة استخدمت البيعة والسمع والطاعة في تسخير أتباعها وعصمة أمرائها، ولكني أقول إن البيعة حق والسمع والطاعة حق، وسوء استخدام الحق يجب ألا يجعلنا ننكره، بل الواجب إنكار إساءة استخدامه.
وسأذكر فيما يلي بعض ما قاله في إنكار هذه البيعات، ثم أرد عليه إن شاء الله تعالى:
* قال الْمُبطِلُ في كتابه "البيعة بين السنة والبدعة" (ص22):
"ومما يؤكد بطلان البيعات الاستثنائية الزائدة على بيعة أمير المؤمنين - ولو في غيابه - هو تنصيص العلماء رحمهم الله تعالى أنه يشترط في البيعة: أن يجتمع أهل الحل والعقد، ويعقدوا الإمامة لمن يستجمع شرائطها" أ ه.
* وقال (ص23): "مما سبق علمنا شيئين مهمين: 1- لا تكون البيعة إلا لأمير المؤمنين فقط 2- والطاعة ناشئة عن البيعة التي هي له وحده حسب. فعلى ذلك تبطل جميع البيعات التي تكون لأي إنسان - ما لم يكن إماما - على أي صورة، سواء في وجود الإمام أم في غيابه لواحد أم لأكثر" وقال في هامش نفس الصفحة:
"فالواجب على من تلبس بمثل هذه البيعات المبتدعة أن يتركها، ويفسخها فإنها باطلة، حرصا على دينه واتباعه" أ ه.
* وقال (ص32): "إن سائر كلام المتقدمين من أهل العلم والفقه كان حول بيعة الخليفة المسلم، ولم يتطرق أحد منهم - فيما اطلعت - إلى هذه البيعات الاستثنائية التي تعطي لغير إمام المسلمين ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل!!" أ ه.
* وقال (ص33): "أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية؟ وهل نستطيع أن نصل بعقولنا وأهوائنا إلى خير نظنه فات صالحي هذه الأمة من السلف
والأئمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصدق النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، فمثل هذه البيعات الاستثنائية التي لم ترد في نص قرآني أو حديث نبوي، أو فعل أحد من السلف الصالح، تعد بدعة محدثة" أ ه.
* وقال (ص36): "ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى 28/ 18: من أنه إذا كان مقصودهم بهذا الاتفاق والانتماء والبيعة التعاون على البر والتقوى، فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره، دون ذلك الاتفاق، وإن كان المقصود به التعاون على الإثم والعدوان، فهذا قد حرمه الله ورسوله، فما قصد بهذا من خير ففي أمر الله ورسوله بكل معروف، استغناء عن ذلك الاتفاق، وما قصد بهذا من شر فقد حرمه الله ورسوله!!" أ ه.
* وقال (ص37): نقلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: ليس لأحد أن يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريد، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا واليا، ومن خالفهم عدوا باغيا. أ ه.
* وقال (ص 39 ، 40): "أما إنها (عهد) فهذا لم يكن من منهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بل كان واقعهم خلاف ذلك تماما، فقد روى أبو نعيم الحافظ الأصبهاني  - في "حلية الأولياء" 2/ 204 - بإسناده الصحيح إلى مُطَرِّف بن عبد الله بن الشخير قال: "كنا نأتي زيد بن صوحان، وكان يقول يا عباد الله أكرموا، وأجملوا، فإن وسيلة العباد إلى الله بخصلتين: الخوف والطمع، فأتيته ذات يوم وقد كتب كتابا فنسقوا كلاما من هذا النحو: (إن الله ربنا، ومحمدا نبينا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا، وكنا له، ومن خالفنا كانت يدنا عليه، وكنا وكنا)، قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلا رجلا، فيقولون أقررت يا فلان؟..حتى انتهوا إليّ، فقالوا: أقررت يا غلام؟ قلت: لا، قال: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول يا غلام؟ قال: قلت: إن الله قد أخذ عَلَيَّ عهدا في كتابه، فلن أحدث عهدا سوى العهد الذي أخذه الله عز وجل!! قال: فرجع القوم من عند آخرهم، ما أَقَرَّ بِهِ أحد منهم: قال: قلت لمطرف: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثين رجلا".
فانظر - رحمك الله - إلى واقعهم، وإلى أحوال قلوبهم في قبول الحق والانقياد إليه وإلى رفضهم أي أمر - ولو كان ظاهره صدقا وحقا وعدلا - إذا لم يكن واردا - بكيفيته - في كتاب الله سبحانه، أو ثابتا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإذا كان مُفَرِّقا للأمة أي تفريق، ولو صَغُرَ!" أ ه.
* ثم ختم كتابه بنصيحة للدعاة قائلا في (ص 41): "إن هذا البحث - على وجازته - يعد فرصة للدعاة لكي ينتبهوا بعد غفلة، ويستيقظوا بعد سبات، ولكي لا يقدموا على أي عمل أو قول إلا بعد علم، وبينة، ودراية، وتثبت" أهـ.
هذا مجمل ما كتبه، ولقد أطال في غير طائل وأتى بغير الصواب، ولم يتثبت ولم يتبين كما أخذ على نفسه في أول كتابه (ص5)، وكما نصح غيره في آخر كتابه (ص41).
والحق أن ما ذكرتُه في هذا الفصل - يعني في كتاب "العمدة في إعداد العدة" - من مسائل بَدءًا من مشروعية العهد إلى حكم ناكثه، فيه رد كاف على كلام مؤلف كتاب (البيعة بين السنة والبدعة)، ومع ذاك سوف أجمل ما سبق في عدة أمور:
أولا: إن الإمارة على الجماعات الإسلامية التي قامت على التعاون على البر والتقوى هي إمارة شرعية صحيحة، كما سبق تفصيل هذا في الباب الثالث مع الرد على شبهة
المؤلف حول الإمارة.
ثانيا: إذا ثبت شرعية هذه الإمارة، فيجب على كل من قبلها السمع والطاعة للأمير في غير معصية وإن لم يعاهده على هذا، إذ إن هذا يجب بالشرع ابتداء بدون عهد، وقد سبق بيان هذا في أول الفصل وذكرت هناك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب طاعة ولاة الأمور وإن لم يعادهم الإنسان أو يحلف لهم، فراجعه هناك - نقلا عن مجموع الفتاوى ج 35 ص 9 - 10
-، وذكرت كذلك - من قبل - قوله (أولي الأمر منكم) يدخل فيهم كل متبوع، قال (وكل من كان متبوعا فهو من أولي الأمر)، ويدخل في هذا أمراء الجماعات المشار إليها.
ثالثا: ذكرت في مسألة (فائدة العهد والغرض منه) وهي الثانية من هذا الفصل، أن العهد له فائدتان:
الأولى: توكيد ما وجب بالشرع ابتداء وهي طاعة ولاة الأمور ومعاونتهم على الحق ومناصحتهم إلى غير ذلك مما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والثانية: الالتزام بشروط أخرى لم يوجبها الشرع ابتداء وإنما تجب وفاءً بالعهد ما لم تخالف الكتاب والسنة، وذكرت هناك كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الشأن نقلا عن "مجموع الفتاوى" 29/ 341، 345 ومن المواضع التي نص شيخ الإسلام على أنها تجب على العبد للأمرين، قوله "وكتعاقد الناس على العمل بما أمر الله به ورسوله"، وهذه العبارة بالذات تنطبق تماما على الجماعات التي نتحدث عنها، فإذا قامت جماعة بغرض نصرة الدين، فيجب على كل مسلم معاونة هذه الجماعة، عاهدها أم لم يعادها، إذ إن هذا واجب بالشرع ابتداء لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، فإذا عاهدها تأكد هذا الوجوب لوجوب الوفاء بالعهد {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا}.
وكذلك السمع والطاعة واجبان على كل فرد في مثل هذه الجماعات لأُولِي الأمر منهم، عاهد على هذا أم لم يعاهد، فإن عاهد تأكد الوجوب.
رابعا: أن العهود جائزة بين المسلمين على الطاعات، وما ذكرته في مسألة (مشروعية العهد) يغني عن الإعادة هنا، حيث ذكرت أدلة المشروعية من القرآن والسنة وسيرة الصحابة رضي الله عنهم.
خامسا: أنه يجوز أن تُسَمَّى هذه العهود بيعات، كما ذكرته في المسألة الخامسة من هذا الفصل وهي (هل يجوز تسمية هذا العهد بيعة؟) وأن هذا مما يمكن إدخاله في إجماعات
الصحابة، لفعل عِكرمة يوم اليرموك وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه، ثم فعل قيس بن سعد يوم صِفِّين، إلى آخر ما ذكرته هناك، مما يدل على جواز هذه التسمية فيسقط كلام المؤلف في (ص32) حيث قال: "ولم يتطرق أحد منهم - فيما اطلعت - إلى هذه البيعات الاستثنائية" وفي (ص 33) حيث قال: "أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية" ولاحظ أنني قلت إن سيرة الصحابة تدل على جواز وليس وجوب هذه التسمية، ولذلك ورغم جواز تسمية هذه العهود بيعات، إلا أنني أرى ألا تسمى عهود الجماعات الآن بالبيعة وأن يُقْتَصَر على تسميتها بالعهد حتى لا تلتبس ببيعة الخليفة، وحتى يظل هذا الجيل من المسلمين مدركا أنه ليست في عنقه بيعة لإمام المسلمين، فيسعوا في هذا الشأن.
ومن باب الرد على كلام المؤلف في (ص32، 33، 39) وقوله إن هذه البيعات لم تكن من منهج السلف الصالح، سأذكر فيما يلي بعض البيعات التي وقعت بين المسلمين في القرون الثلاثة الخيرية من هذه الأمة، ليعلم المسلم أن العهد أو البيعة على الطاعات ورأسها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، كان أمرا متعارفا عليه بين السلف الصالح من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ومن ذلك:
1 - مبايعة الصحابي عِكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه - لأربعمائة من وجوه المسلمين على الموت يوم اليرموك، وقد سبق ذكرها والتعليق عليها. "البداية النهاية" 7/ 11.
2 - مبايعة الصحابي قيس بن سعد لأربعين ألفا على الموت يوم صِفِّين، وقد سبق ذكرها. "فتح الباري" 13/ 63.
3 - مبايعة أهل الكوفة للحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سنة 61ه- للخروج على خليفة الوقت يزيد بن معاوية، وقد أرسل الحسين ابن عمه مُسلمًا بن
عقيل لأخذ البيعة له فبايعه ثمانية عشر ألفا. انظر "البداية والنهاية" 8/ 152 وما بعدها.
4 - مبايعة أهل المدينة للصحابي عبد الله بن حنظلة سنة 63 ه- للخروج على يزيد بن معاوية، فكانت وقعة الحَرَّة، وقد سبق ذكرها. "البداية والنهاية" 8/ 217،
و "فتح الباري" 6/ 118 - 13/ 68.
5 - طلب عبد الله بن الزبير الصحابي البيعة لنفسه بعد موت يزيد بن معاوية، وقد بايعه جميع الأمصار إلا الأردن ومن بها من بني أمية وعلى رأسهم المروان بن الحكم فبايعوا مروان وحاربوا أهل الشام ثم مصر ثم العراق إلى أن انتهى الأمر بقتل ابن الزبير سنة 73 ه، وقد سمي ابن الزبير بأمير المؤمنين ودامت خلافته من 64 ه إلى سنة 73 ه.
"فتح الباري" 13/ 69 و 194، و "البداية والنهاية" 8/ 238 وما بعدها.
6 - وذكر ابن كثير أن أهل دمشق لما مات خليفة الوقت معاوية بن يزيد سنة 64ه، بايعوا الضحاك بن قيس على أن يُصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع الناس على إمام. "البداية والنهاية" 8/ 239.
7 - وذكر ابن كثير في أحداث سنة 64 ه قال: "وفيها اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صرد - وهو صحابي جليل كما قال ابن كثير - بالكوفة، وتواعدوا النخيلة ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى أن قال - فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صرد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا وتواعدوا النَّخِيلةَ. "البداية والنهاية" 8/ 247.
قلت: لم يكن الشيعة سموا إذ ذاك بالرافضة، ولم يسموا بذلك إلا في زمن زيد بن عَلِيّ.
8 - خروج عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج الثقفي ثم الخليفة عبد الملك بن مروان (81 - 82 ه) وكان ابن الأشعث على رأس الجيش للحجاج بفارس، فنقم منه أمورا، قال ابن الأشعث لمن معه: "اخلعوا عدو الله الحجاج - ولم يذكر خلع عبد الملك - وبايعوا لأميركم عبد الرحمن بن الأشعث فإني أشهدكم أني أول خالع للحجاج، فقال الناس من كل جانب: خلعنا عدو الله الحجاج ووثبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه عوضا عن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان - إلى أن قال - فلما توسطوا الطريق قالوا: إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله وخلع أئمة الضلال وجهاد الملحدين. وقال ابن كثير: ووافقه على خلعهما جميع من في البصرة من الفقهاء والقراء والشيوخ والشباب. وقال ابن كثير: وجعل الناس يلتقون على ابن الأشعث من كل جانب، حتى قيل إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل. وقال ابن كثير: ودخل ابن الأشعث الكوفة فبايعه أهلها على خلع الحجاج وعبد الملك بن مروان. وقال ابن كثير: وكان جملة من اجتمع مع ابن الأشعث مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم. وقال ابن كثير: وجعل ابن الأشعث على كتيبة القراء - العلماء - جبلة بن زحر، وكان فيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وكميل بن زياد - وكان شجاعا فاتكا على كبر سنه -
وأبو البحتري الطائي وغيرهم، ومما قاله الشعبي: قاتلوهم على جورهم واستدلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة. "البداية والنهاية".
9 - خروج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 121 ه على خليفة الوقت هشام بن عبد الملك، وزيد هو الذي تنسب إليه الطائفة الزيدية من الشيعة، قال ابن كثير في "البداية والنهاية" 9/ 237: بايعه على ذلك أربعون ألفا من أهل الكوفة.
10 - خروج يزيد بن الوليد على ابن عمه خليفة الوقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة 162 ه، قال ابن كثير: "قد ذكرنا بعض أمر الوليد بن يزيد وخَلاَعته ومَجَانته وفسقه وما ذُكر عن تهاونه بالصلوات واستخفافه بأمر دينه قبل خلافته وبعدها، فإنه لم يزدد في الخلافة إلا شرا".
وقال: "فقام يزيد بن الوليد في خلعه وبايعه الناس على ذلك، وكثرت الجيوش حوله كلهم قد بايعه بالخلافة، وطلب الوليد بن يزيد فقتله".
11 - بيعة معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، قال ابن كثير: "وفي هذه السنة 127 ه خرج بالكوفة معاوية بن عبد الله، فدعا إلى نفسه وخرج إلى محاربة أمير
العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فجرت بينهما حروب يطول ذكرها. "البداية والنهاية"10/ 25.
12 - قيام دولة العباسيين منذ بدء دعوتهم سنة 100 ه إلى بدء خلافة السفاح أول خلفائهم 132 ه قال ابن كثير: "في سنة 118 ه: وفيها وفاة علي بن عبد الله بن عباس، وقد بايع كثير من الناس لابنه محمد بالخلافة قبل أن يموت عَلِيٌّ هذا قبل هذه السنة بسنوات ولكن لم يظهر أمره حتى مات فقام بالأمر من بعده ولده عبد الله أبو العباس السفاح وكان ظهوره في سنة 132 ه". "البداية والنهاية" 9/ 321.
فهنا الناس قد بايعوا محمدًا بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في وجود خلافة أموية شرعية.
ولما توفي محمد بن علي سنة 125 بن عبد الله أوصى من بعده لابنه إبراهيم، فكتب إبراهيم لأبي مسلم الخرساني سنة 129 بأن يظهر الدعوة فأقبل الناس من كل جانب إلى أبي مسلم وكثر جيشه، ثم قُتِل إبراهيم سنة 132 وأوصى من بعده لأخيه أبي العباس السفاح، وذلك في خلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فدخل أبو العباس الكوفة وسلموا عليه بالخلافة وصعد المنبر وبايعه الناس وهو على المنبر، ثم انتدب عمه عبد الله بن عَلِي لقتال الخليفة مروان بن محمد إلى أن قُتِل مروان واستقرت الخلافة لأبي العباس السفاح سنة 132. ومما هو جدير بالذكر أن دعوة بني العباس لدولتهم استمرت 32 سنة أو أكثر أثناء خلافة بني أمية، وكانوا يأخذون البيعة من الناس رغم وجود خلافة أموية شرعية، ومما يجدر بالذكر كذلك أنهم أخذوا البيعة من الناس لفرد مُبْهَم وهو (الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم) انظر "البداية والنهاية" 10/ 31.
ومعناه من يرضى عنه آل محمد ويتفقون عليه، وذلك مَنْعا للشقاق بين العلويين والعباسيين ليصيروا يدا واحدة على بني أمية.
13 - بيعة أبي محمد السفياني. قال ابن كثير في 132ه: "وتفاقم الأمر على عَلَي عبد الله - بن علي عم الخليفة السفاح - وذلك أن أهل قِنسِرِّين تراسلوا مع أهل حمص وتزمروا واجتمعوا على أبي محمد السفياني وهو أبو محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فبايعوه بالخلافة وقام معه نحو من أربعين ألفا فقصدهم عبد الله بن علي فالتقوا بمرج الأخرم، فاقتتلوا مع مقدمة السفياني وعليها أبو الورد فاقتتلوا قتالا شديدا ..."البداية والنهاية" 10/ 52.
14 - بيعة عبد الرحمن الداخل الخليفة الأموي بالأندلس في زمن العباسيين، قال ابن كثير في سنة 138ه "وفيها كانت خلافة الداخل من بني أمية إلى بلاد الأندلس، وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وكان قد دخل إلى بلاد المغرب فرارا من عبد الله بن علي، فاجتاز بمن معه من أصحابه الذين فروا معه بقوم يقتتلون على عصبية اليمانية والمضرية، فبعث مولاه بدرا إليهم فبايعوه، ودخل بهم ففتح بلاد الأندلس، واستحوذ عليها وانتزعها من نائبها يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري وقتله، وسكن عبد الرحمن قرطبة واستمر في خلافته في تلك البلاد من هذه السنة إلى سنة 172ه". "البداية والنهاية" 10/ 74.
15 - بيعة محمد النفس الزكية وخروجه على الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور سنة 145ه قال ابن كثير: "ثم دخلت سنة 145ه، فمما كان فيها من الأحداث مخرج محمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة". "البداية والنهاية" 10/ 82 - طبعة دار الفكر.
وقال ابن كثير: "وأصبح محمد بن عبد الله بن حسن وقد استظهر على المدينة ودان له أهلها، فصلى بالناس الصبح وقرأ فيها سورة {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} وأسفرت هذه الليلة عن مستهل رجب من هذه السنة، وقد خطب محمد بن عبد الله أهل المدينة في هذا اليوم، فتكلم في بني العباس وذكر عنهم أشياء ذمهم بها، وأخبرهم أنه لم ينزل بلدا من البلدان إلا وقد بايعوه على السمع والطاعة، فبايعه أهل المدينة كلهم إلا القليل". "البداية والنهاية" 10/ 84.
وقد روى ابن جرير عن الإمام مالك أنه أفتى بمبايعته، فقيل له إن في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنما كنتم مكرهين وليس لمكره بيعة. فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك،
ولزم مالك بيته".
وقال ابن كثير: إن أبا جعفر المنصور الخليفة كتب إليه قال: (فلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله، إن أنت رجعت إلى الطاعة لأؤمنك ومن اتبعك.
وقال ابن كثير: إنه لما أرسل المنصور جيشه لقتال محمد، صعد محمد بن عبد الله على المنبر فخطب الناس وحثهم على الجهاد وكانوا قريبا من مائة ألف".
16 - بيعة إبراهيم بن عبد الله بن حسن (أخي محمد النفس الزكية) وكان يدعو في السر إلى أخيه فلما قُتل أخوه (محمد النفس الزكية) 145 ه أظهر الدعوة إلى نفسه، وقَدِمَ البصرة وبايعه فئام من الناس، وجعل الناس يقصدون من كل فج لمبايعته ودانت له البصرة والأهواز وفارس والمدائن وأرض السواد، وخرج من البصرة في مائة ألف مقاتل قاصدا الكوفة لقتال جيش الخليفة أبي جعفر المنصور. "البداية والنهاية" 10/ 91 - 94.
وقال ابن كثير عن محمد وأخيه إبراهيم: "قد حُكِيَ عن جماعة من العلماء والأئمة أنهم مالوا إلى ظهورهما".
وممن مال إلى ظهور محمد: الإمام مالك بالمدينة كما سبق، وممن مال إلى ظهور إبراهيم: الأمام أبو حنيفة وشعبة بن الحجاج وهشيم وكلاهما من أئمة الحديث.
17 - بيعة أحمد بن نصر الخزاعي سنة 231 للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عموما، ثم مبايعته للخروج على الخليفة الواثق لفسقه وبدعته، قال ابن كثير:
"ثم دخلت سنة 231، وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه - إلى قوله - وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشُّطار والدُّعار في غيبة المأمون عن بغداد كما تقدم ذلك، وبه تُعرف سويقة نصر بغداد، وكان
أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلا ونهارا، اعتمادا على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولا سنة ولا قرآن، فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها، فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداد وانتصب للدعوة إلى
 أحمد بن نصر هذا رجلان وهما أبو هارون السراج يدعو الجانب الشرقي، وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة، وجماعات غزيرة، فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه هو وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها". "البداية والنهاية" 10/ 303-304.
قلت: انظر أيها القارئ الكريم إلى هذه البيعات التي ذكرتها، والتي كان يدخل فيها ألوف الناس، والتي استحسنها كثير من التابعين ودخلوا فيها، وحَرَّض الناس عليها الإمامان
مالك وأبو حنيفة، ثم انظر إلى كلام الْمُبطِلُ مؤلف كتاب "البيعة بين السنة والبدعة" (ص 32 - 33)، وقوله: "لم يتطرق أحد من المتقدمين إلى مثل هذه البيعات" وقوله:
"أين كان سلف هذه الأمة عن مثل هذه البيعات الاستثنائية؟".
وهذه البيعات التي ذكرتها آنفا منها:
1 - بيعات على الجهاد والاستشهاد: كمبايعة عكرمة بن أبي جهل وقيس بن سعد لمن معهما، وهما صحابيان رضي الله عنهما.
2 - بيعات على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كمبايعة أهل المدينة لأمرائهم في وقعة الحَرَّة، وبيعة سليمان بن صرد، وبيعة أحمد بن نصر الخزاعي.
3 - بيعات على القيام بأمر طائفة من المسلمين حتى يظهر خليفة: كمبايعة أهل دمشق للضحاك بن قيس.
4 - بيعات على المنازعة في الخلافة خروجا على أئمة الجور: كبيعات الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وابن الأشعث وزيد بن علي ويزيد بن الوليد ومعاوية بن عبد الله بن جعفر والعباسيين وأبي محمد السفياني وعبد الرحمن الداخل ومحمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم.
والأنواع الثلاثة الأُوَل من هذه البيعات ليست بيعات خلافة، وهي التي سماها مؤلف كتاب البيعة (البيعات الاستثنائية) ونَفَى وقوعها في السلف، وأما النوع الرابع، فهي أيضا ليست بيعات خلافة بل بيعات لطلب الخلافة ومنازعة خليفة الوقت، ولا تعتبر أي بيعة من هذه بيعة خلافة إلا باسقرار الخلافة لطالبها ودخول جمهور المسلمين في بيعته، أما قبل ذلك فالبيعة الشرعية هي بيعة خليفة الوقت المخروج عليه، ومن الخارجين الذين استقرت لهم الخلافة عبد الله بن الزبير ويزيد بن الوليد والعباسيين وعبد الرحمن الداخل.
فبيعات كل هؤلاء تدخل تحت اسم (البيعات الاستثنائية) قبل استقرار الخلافة لهم، سواء منهم من استقرت له أو لم تستقر.
وقد يقول قائل: ما حكم خروج هؤلاء الخارجين على الخلفاء؟ قلت: الخروج على الحاكم الكافر لا خلاف في وجوب على من قدر عليه، أما الفاسق أو الظالم وهو الحال في معظم البيعات المذكورة أعلاه، كان فيه خلاف بين سلف الأمة فمنهم من أوجبه لعموم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من نهى عنه لأحاديث "من كره من أميره شيئا فليصبر" فهذه البيعات المذكورة أعلاه كانت من باب الأخذ بعموم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم حدث بعد هذه الفتن أن استقر رأي جمهور أهل السنة والجماعة على الأخذ بالصبر على أئمة الجور ومنع الخروج عليهم، وقد ذكر هذا الخلاف القديم وما استقر عليه الرأي الإمام النووي فقال:
"قال القاضي عياض: فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب، وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك، قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع وقد رَدَّ عليه بعضُهم هذا بقيام الحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث وتأول هذا القائل قوله أن لا ننازع الأمر أهله في أئمة العدل وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق بل لما غَيَّر من الشرع وظَاهَر من الكفر، قال القاضي: وقيل إن هذا الخلاف كان أولا ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله أعلم".
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الصبر على أئمة الجور وعدم الخروج عليهم هو ما استقر عليه رأي أهل السنة بعد الخلاف القديم في هذه المسألة.
قلت: وقد صارت هذه المسألة تُدوَّن ضمن اعتقاد أهل السنة والجماعة كما هو مثبت في العقيدة المتداولة، قال صاحب العقيدة الطحاوية:
"ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة".
وقد نقل ابن حجر عن ابن بطال الإجماع على هذا أيضا، وقال ابن حجر: "ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وَجَب، وإلا فالواجب الصبر. وعن بعضهم لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداء، فإن أحدث جورا بعد أن كان عدلا فاختلفوا في جواز الخروج عليه، والصحيح المنع إلا أن يكفر فيجب الخروج عليه".
ومع هذا فقد أخذ ابن حزم - "المحلى" 9/ 362 - بالقول بعموم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنها ناسخة للأحاديث الآمرة بالسكوت.
وهو محجوج بالإجماع المنعقد على الصبر على أئمة الجور، وقوله بالنسخ يفتقر إلى معرفة التاريخ، والصواب هو القول بالعام والخاص وأن الخاص (وهي أحاديث الصبر على أئمة الجور) مقدم على العام (وهي عموم أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) حسب القواعد الأصولية.
سادسا: نقل مؤلف كتاب "البيعة بين السنة والبدعة" كلاما مبتورا لشيخ الإسلام ابن تيمية، فنقل عن شيخ الإسلام ما يؤيد رأيه وهو أن هذه العهود بدعة باطلة وترك من كلام شيخ الإسلام ما يخالف رأيه، ولم يكتف المؤلف بأن يأخذ ما يريد ويدع ما يريد من كلام ابن تيمية، بل تجاوز هذا، فقد تصرّف فيما نقله المؤلف فيما نقله عن شيخ الإسلام بالحذف والإضافة ليوهم القارئ أن شيخ الإسلام ينكر تعاهد الناس واتفاقهم على التعاون على البر والتقوى، وهذا التحريف في نقل فتاوى العلماء ليس من الأمانة العلمية في شيء.
فقد نقل في (ص 36) من كتابه كلاما لشيخ الإسلام من المجلد 28 ص 18، تَصَرَّف فيه بالحذف والإضافة ليطَوِّعه لرأيه، وكان شيخ الإسلام رحمه الله يتحدث عن تعصب التلاميذ لمعلميهم في صورة شد الوسط وغيره، فنهى عن ذلك.
قال ابن تيمية: "فإن كان المقصود بهذا الشد والانتماء التعاون على البر" إلا أن المؤلف كتب هذه العبارة هكذا (من أنه إذا كان مقصودهم بهذا الاتفاق والانتماء والبيعة التعاون على البر)، وكما ترى فقد أدخل المؤلف كلمة (البيعة) ضمن كلام ابن تيمية لينصر رأيه، فَقَوَّل ابن تيمية رحمه الله ما لم يَقله، وكذلك حذف كلمة (الشد) وأضاف كلمة (الاتفاق).
كذلك فقد نقل المؤلف في (ص 37 ) من كتابه، أن شيخ الإسلام رحمه الله قال: ليس لأحد أن يقول يأخذ على أحد عهدا بموافقته على كل ما يريد، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه بل من فعل هذا كان من جنس جنكز خان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقا واليا، ومن خالفهم عدوا باغيا.
وهذا النقل أيضا يوهم القارئ أن شيخ الإسلام ينكر تعاهد الناس على أعمال البر، والحق أن كلام شيخ الإسلام السابق ورد في معرض جوابه عن سؤال جاء فيه (وهل للمبتدئ أن يقوم وسط جماعة من الأستاذين والمتعلمين ويقول: يا جماعة الخير، أسأل الله تعالى وأسألكم أن تسألوا فلانا أن يقبلني أن أكون له أخا أو رفيقا أو غلاما أو تلميذا أو ما أشبه ذلك، فيقوم أحد الجماعة فيأخذ عليه العهد ويشترط عليه ما يريده ويشد وسطه بمنديل أو غيره، فهل يسوغ هذا الفعل أم لا؟".
فأجاب شيخ الإسلام ببيان ما لا يجوز من هذا، وهو شد الوسط والتعصب للمُعَلم بحق أو بباطل وهو ما نقله مؤلف كتاب (البيعة)، وكذلك بَيَّن شيخ الإسلام ما يجوز من هذا، وهو أن العهد جائز بين المعلم والتلميذ وذكر صيغة لهذا العهد، وهو ما لم ينقله مؤلف كتاب (البيعة) لأنه لو نَقَل هذا الجزء من جواب شيخ الإسلام لهدم كتابه من أساسه، وأهل العلم ينقلون ما لهم وما عليهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله عن العهد بين المعلم وتلميذه: "ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن تُوالي من والى الله ورسوله، وتعادي من عادى الله ورسوله، وتُعاون على البر والتقوى ولا تُعاون على الإثم والعدوان، وإذا كان الحق معي نصرت الحق، وإن كنت على باطل لم تنصر الباطل، فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى، الذين يريدون أن يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا" "مجموع الفتاوى" 28/ 21.
وقد ذكرت كلامَه هذا من قبل في (مشروعية العهد)، فراجعه هناك.
وهنا فائدة لطيفة: وهي أن جواب شيخ الإسلام عن جواز العهد وحرمة الانتقال من معلم إلى غيره بلا سبب، هو متعلق بالتدريب العسكري، حيث أن السؤال كان عن معلم الرماية وتلميذه، وَرَدَ في السؤال "وإذا عَلَّمَ رجل رجلا الرمي أو الطعن وغيرها من آلات الحرب والجهاد في سبيل الله تعالى وجحد تعليمه، وانتقل إلى غبره وانتمى إليه، هل يأثم بذلك أم لا؟ 
فأجاب رحمه الله بما سبق مُبَيِّنا ما يجوز وما لا يجوز.
وأورد شيخ الإسلام رحمه الله في أكثر من موضع ما يدل على جواز العهود بين الناس على الطاعات، وبَيَّن ما يجوز من الشروط في هذه العهود، وقد ذكرتُ كلامَه في هذا الشأن في مسألة (فائدة العهد والغرض منه)، خاصة قوله "والذي يوجبه الله على العبد قد يوجبه ابتداء، كإيجابه الإيمان والتوحيد على كل أحد، وقد يوجبه، لأن العبد التزمه وأوجبه على نفسه، ولولا ذلك لم يوجبه، كالوفاء بالنذر للمستحبات، وبما التزمه في العقود المباحة: كالبيع والنكاح والطلاق، ونحو ذلك، إذ لم يكن واجبا، وقد يوجبه لأمرين، كمبايعة الرسول على السمع والطاعة له، وكذلك مبايعة أئمة المسلمين وكتعاقد الناس على العمل بما أمر الله به ورسوله".
فذكر رحمه الله أن "تعاقد الناس بما أمر الله به ورسوله" يجب عليهم القيام به لأمرين: لوجوبه بالشرع ابتداء ولوجوبه بالتعاقد والتعاهد عليه، فأي كلام أوضح من هذا.
وذكر في الشروط أن هذا الشرط ينطبق على (عقود المشايخ وعقود المتآخين).
سابعا: وما نقله مؤلف كتاب (البيعة) عن أبي نعيم في (الحلية) من رفض مطرف بن عبد الله لمثل هذا الكلام الذي عرضوه عليه، فهذا الكلام الذي كتبوه باطل وحَرِيٌّ به أن يُرفَض، فهو يشبه ما أنكره ابن تيمية رحمه الله من التناصر بحق أو باطل، فهم قالوا: (ومن كان معنا كنا وكنا، ومن خالفنا كانت يدنا عليه) هذا باطل، والصواب أن يقال:
(ومن كان على الحق نصرناه، ومن خالف الحق كانت يدنا عليه) فشرطهم كان مخالفا للكتاب والسنة فلا يجوز العهد عليه.
أما أن يريد المؤلف الاستدلال برفض مطرف لهذا العهد على بطلان مبدأ العهود بين الناس، فهذا لا يستقيم بعد ما ذكرته من أدلة في (مشروعية العهد) من كتابٍ وسنةٍ وسيرة الصحابة فكيف ينتهض فعل أحد التابعين - إن صح الاستدلال به - في وجه هذه الأدلة؟
وإذا كان قول الصحابي يُرَدُّ إذا خالف الكتاب والسنة، فكيف بفعل أحد التابعين؟، وقد ذكرت أن صيغة العهد التي عُرِضَت على مطرف باطلة، ويمكن أن يؤول رفضه من هذا الوجه.
ويكفينا أن مؤلف كتاب (البيعة) لم يجد دليلا يعضد رأيه من القرآن أو السنة أو أقوال الصحابة وسيرتهم، فلجأ إلى فعل لأحد التابعين مُحْتَمَلٍ للتأويل، ولم يكفه هذا فلجأ
إلى التصرف في كلام ابن تيمية رحمه الله بالحذف والإضافة والكتمان لينصر رأيه.
ولا ينبغي لأحد أن يفهم من كلامي السابق أنني أنكر الاستدلال بأقوال التابعين، بل أرى الاستدلال بها ما لم تخالف كتابا أو سنة أو قول صحابي أو تابعي، فكيف وقول مطرف - هنا - يخالف الأدلة التي ذكرتها في (مشروعية العهد)؟ هذا إذا حُمل كلامه على إنكار العهود بإطلاق.
وعن الأخذ بأقوال التابعين، قال ابن القيم "إعلام الموقعين" 4/ 156:
"اختلف السلف في ذلك، فمنهم من يقول: يجب اتِّباع التابعي فيما أفتى به ولم يخالفه فيه صحابي ولا تابعي، وهذا قول بعض الحنابلة والشافعية، وقد صرح الشافعي في موضع بأنه قال تقليدا لعطاء، وهذا من كمال علمه وفقهه رحمه الله، فإنه لم يجد في المسألة غير قول عطاء، فكان قوله عنده أقوى ما وجد في المسألة...".
قلت: وفي مسألة الاحتجاج بقول التابعي كلام آخر مثل العمل عند اختلاف أقوال التابعين وكذلك إذا خالف قول التابعي القياس، فيُرجع إلى كتب الأصول في هذا.
وهناك كلام آخر ذكره مؤلف كتاب (البيعة بين السنة والبدعة) يستوجب الرد عليه وبيان خطئه فيه، إلا أنني سأعرض عنه لعدم تعلقه بموضوعنا، ومن هذا قوله في (ص40)
إن السلف يرفضون أي أمر ما لم يكن واردا بكيفيته في الكتاب والسنة، ولا شك أن هذا افتراء على السلف، فجمهور السلف يعتبرون الإجماع والقياس بعد الكتاب والسنة، وقوله هذا (بكيفيته) لم يقل به غلاة المذهب الظاهري الذي يعده كثير من السلف بدعة.
ومثل قوله: إن البيعة تبطل إذا لم يجتمع أهل الحل والعقد ويعقدوا الإمامة لمن يستجمع شرائطها (ص22) وهذا الكلام في تعميمه خطأ، إذ إن عقد أهل الحل والعقد هو أحد
وسائل عقد الإمامة، وهناك العهد من الخليفة السابق (الاستخلاف)، وهناك الغلبة والاستيلاء ومَنْ تَغَلَّب وتَسَمَّى بأمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يَبِيتَ
ولا يراه أميرا للمؤمنين كما قال أحمد بن حنبل.
هذا ما يتعلق بالرد على شبهات مؤلف كتاب (البيعة بين السنة والبدعة)، وما رددت عليها إلا لإزالة التلبيس الذي قد يُصاب به البعض بقراءة مثل هذا الكتاب، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى تعاقد المسلمين وتعاهدهم بالمواثيق المغلظة من أجل نصرة دين الله وإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله كما يحب ربنا ويرضى.
[2] - قد يقول قائل إن حديث مؤتة لا ينطبق على حالنا الآن، ففي مؤتة كان الإمام (النبي صلى الله عليه وسلم) غائبا، فلما رجعوا إليه صَوَّبَ صنيعهم، أما اليوم فلا إمام
البتة، فلا تصح إمارة هذه الجماعات لافتقاد الإمام، ونحن نؤكد صحة ما ذهبنا إليه من الاستدلال بحديث غزوة مؤتة وتأمير الصحابة لخالد بن الوليد، إذ إن العلة المشتركة بين الحالتين هي اجتماع طائفة من المسلمين على عمل مشترك وهو الجهاد بِمعزل عن الإمام، سواء كان الإمام غائبا أم معدوما، ففي كلا الحالين هو غائب عن صنيعهم، والمستفاد من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك وهو تقريره لفعلهم (السنة التقريرية) هو تشريع لا يستفاد من أحد بعده صلى الله عليه وسلم من إمام أو غيره، ونحن نحيل قائل هذا القول إلى كلام ابن المنير السابق حيث قال: (وتعذرت مراجعة الإمام) وهذا التعذر يشمل غياب الإمام أو عدمه، وكلام ابن قدامة أكثر وضوحا حيث قال: "فإن عُدِمَ الإمام لم يؤخر الجهاد ... الخ".
ومقتضى قول هذا القائل أن الجهاد بأفغانستان أو بمثلها لا يجوز وباطل لأن الجماعات والأحزاب المقاتلة غير شرعية لعدم صحة الإمارة عليها، وهذا يقتضي أن من أقدم على هذا الجهاد تحت هذه الإمارات هو آثم، وأن المسلمين عليهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون ديارهم ونسائهم وأموالهم تُغتصب حتى ينزل عليهم إمام من السماء، فهل يقول بهذا مسلم؟ أم هل يقول بهذا من فيه مُسْكَةٌ من عقل؟ ومن بقي في نفسه أثر من هذه الشبهة فالدليل التالي يزيلها إن شاء الله تعالى:
عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم تعال صَلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة" أخرجه مسلم، فهذا نص واضح صريح من النبي صلى الله عليه وسلم يبين:
أولًا: استمرارية وبقاء الطائفة المنصورة المقاتلة على الحق حتى نزول عيسى عليه السلام وهبوب الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين جميعا.
ثانيًا: صحة وشرعية الإمارة على هذه الطائفة على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال: "فيقول أميرهم" وعلى لسان عيسى عليه السلام: (إن بعضكم على بعض أمراء) ولا ينبغي أن يحمل هذا (أي صحة الإمارة) على آخر الطائفة وقت نزول عيسى عليه السلام دون ما قبله من الأزمنة، فإن إضافة الأمير إلى الطائفة (أميرهم) مع بيان أن صفة هذه الطائفة هي الإستمرارية (لا تزال) يبين استمرارية هذه الإمارة وصحتها، وأن الإمارة صفة لازمة لهذه الطائفة في كل زمان (لا تزال ...أميرهم) فإذا ثبت أنه تأتي على المسلمين أزمنة يفتقدون فيها الإمامة الكبرى (الخلافة) وثبت صحة واستمرارية الإمارة على الطائفة المنصورة، فتكون الإمارة على هذه الطائفة في حالة انعدام الإمام صحيحة إن شاء الله.
ثالثًا: كيفية عقد الإمارة على هذه الطائفة، بتأميرهم أحدهم عليهم (إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة) فهذا مما كَرَّم الله به المسلمين، وهذا يتفق تماما مع صنيع الصحابة يوم مؤتة، ويدل على أن هذا الصنيع (تأمير المسلمين لأحدهم) ليس خاصا بزمن النبي صلى الله عليه وسلم لبقاء هذا الحكم حتى نزول عيسى عليه السلام.
رابعًا: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246]، وهذه الآية - عندي - من أوضح الأدلة على وجوب الإمارة من أجل الجهاد، فهذه أمة مهزومة مطرودة من ديارها أرادت الجهاد، فبدأت بطلب القائد الذي ستقاتل تحت إمرته، وقد بعث الله عز وجل لهم طالوت ملكا، وهذا تقرير من الله عز وجل لصحة مطلبهم، وهذا هو حالنا اليوم مسلمون مستضعفون لا عزة لهم إلا بالجهاد كما في حديث العينة، ومن مقتضيات الجهاد نصب الأمير، أما كيفية نَصْبِهِ في هذا الزمان فتكون باتفاق الجماعة عليه كما في حديث غزوة مؤتة، وحديث جابر بن عبد الله السابق: "إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة".
خامسًا: قال إمام الحرمين الجويني في "غياث الأمم" (ص 387-388):
"وإذا لم يصادف الناس قَوَّامًا بأمورهم يلوذون به فيستحيل أن يُؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن، عم الفساد البلاد والعباد - إلى قوله - وقد قال بعض العلماء: لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قطان كل بلدة وسكان كل قرية أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهي وذوي العقول والحجا، من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عند مناهيه ومزاجره فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات وتبلدوا عند إطلال الواقعات".
وعندما قدم التتار لغزو الشام وتأخر السلطان عن نصرة الشام رحل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بمصر ليستحثه على نجدة الشام، وقال للسلطان وأعوانه:
"إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جُرِّدَت العساكر إلى الشام، ثم قال لهم: لو قدر لكم أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقَوَّى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكَرَّة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحا شديدا بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم" "البداية والنهاية" 14/ 15.
فاتفق الجويني وابن تيمية على أنه لو خلا بلد عن السلطان أقام الناس بأنفسهم من يلتزمون قوله وأمره، وهذا أيضا يتنزل في حق كل جماعة أو طائفة اتفقت على القيام بأمور الدين في غيبة إمام المسلمين.


حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام