words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(13) خلط مرجئة العصر بين ترك حكم الله في قضية ما، وبين الحكم بمعناه التشريعي




إن الحكم بمعنى التشريع كفر مجرد بخلاف الحكم بمعنى الجور في القضاء ففيه التفصيل، وأن كفر الطواغيت اليوم وعبيدهم من الأول، واستئصالاً لشبهات مرجئة العصر وأذناب الجهم وبشر المريسي، بقي أن ننبه الأخ الموحد إلى معنى الحكم بغير ما أنزل الله الذي حكم الله تعالى على أهله بالشرك والكفر المخرج من الملة دون أن يُذكر معه الاستحلال والاعتقاد أو نحوه كقيد لذلك، وأنه هو عينه التشريع العام والملزم الذي جعله طواغيت العصر حقا لهم ولأتباعهم من الشعب بنيابة برلماناتهم الكفرية، وهو عمل من أعمال الكفر المحض الذي يكفر صاحبه دون أن يقال فيه استحل أو لم يستحل واعتقد أم لم يعتقد، بخلاف الجور في القضاء والحكم مع التزام الإسلام وشرائعه وعدم تبديل شيء منها، فهذا فيه التفصيل المشهور المعلوم بين معتقد مستحل أو عاص متبع للهوى أو الشهوة ونحوها، وهذا التفصيل الأخير يلبس فيه مرجئة العصر وأشياخهم على الأمة وعلى الناس، بتنزيله على النوع الكفري الأول الحاصل من طواغيت العصر فيصورون لهم جريمتهم النكراء هذه على أنها معصية لا يكفر صاحبها إلا بالاستحلال أو الجحود.
فلا بد أن تعرف معنى التشريع الذي هو متعلق بالشرك والتوحيد وتفهم الفرق بينه وبين الحكم المتعلق بالفروع ليزول عنك تلبيس مرجئة العصر والإشكال الذي قد يقع لك في كلام بعض السلف عندما يجمعون بين (الحكم بغير ما أنزل الله) وبعض الذنوب غير المكفرة التي سماها الرسول صلى الله عليه وسلم كفرا ويدرجون ذلك كله في الكفر الأصغر الذي لا يكفر صاحبه إلا بالاستحلال - فإنهم يريدون بالحكم ها هنا معناه غير المخرج من الملة لا المعنى التشريعي التبديلي الحاصل من طواغيت العصر، ومن جنس هذا قول ابن القيم (ص 61) وغيرها من "كتاب الصلاة":
"وإذا حكم بغير ما أنزل الله أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرا وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام".
فتأمل قوله: "وهو ملتزم للإسلام وشرائعه" تعرف أنهم لا يقصدون في مثل هذه المقالات الحكم بغير ما أنزل الله بصورته التشريعية الكفرية في زماننا [[1]].
وقد أشار إلى مثل هذا التفصيل والتفريق الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه "التوضيح عن توحيد الخلاّق في جواب أهل العراق"
(ص 141) فقسّم الحكم بغير ما أنزل الله إلى نوعين:
- نوع شركي يضاد التوحيد.
- ونوع في الفروع.
وبيّن أن النوع الأول كفر حقيقي لا إيمان فيه.
وأما الثاني [[2]] فذكر التفصيل المعروف فيه على قسمين:
- فإن لم يقر اللسان وينقد القلب [[3]] فهو أيضا كفر حقيقي لا إيمان معه.
- وأما إن اعترف بقلبه وأقر بلسانه بحكم الله ولكنه عمل بضده ظاهرا في الفروع خاصة، فليس بكفر ينقل عن الملة.
وذكر في هذا آثارا منها قول طاووس:
"ليس الحكم في الفروع بغير ما أنزل الله مع الإقرار بحكمه والمحبة له ينقل عن الملة" وبين هذا النوع في موضع آخر من كتابه (ص 143) بقوله:
"وعدم الحكم بما أنزل الله في الفروع التي ليست من أصل الدين مع الاعتراف بحكم الله في قلبه وقوله ومحبته واختياره وانقياده إليه فيهما".
فتأمل تفريقهم بين الحكم المتعلق بالشرك والتوحيد (التشريع).
والحكم في الفروع بمعنى "الجور في القضاء من غير تشريع ولا استبدال ولا استحلال".
وكما يخلط بينهما مرجئة العصر جهلاً أو تلبيسا وتدليسا فينزلون النوع الأخير على طواغيت الزمان المشرعين، فكذلك الخوارج خلطوا وأرادوا جعل الأخير كالأول وإن لم يصاحبه استحلال أو جحود، ولذلك قال الشيخ سليمان في الموضع الأول:
"وقد جنح الخوارج إلى العموم لظاهر الآية وقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافرا.
وقد انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على خلافهم، ونحن لم نكفر إلا من لم يحكم بما أنزل الله من التوحيد بل حكم بضده وفعل الشرك ووالى أهله وظاهرهم على الموحدين".
أقول: وكذلك نحن فإن الذين كفرناهم بالحكم بغير ما أنزل الله لم نكفرهم لحكمهم بالفروع بمعنى الجور بالقضاء ونحوه من غير استحلال كما هي طريقة الخوارج، وإنما كفرناهم لأن حكمهم بغير ما أنزل الله من النوع التشريعي الشركي المناقض لأصل التوحيد، ولأنهم اتبعوا حكما ومشرعا غير الله عز وجل، وابتغوا دينا وشريعة غير دينه وشريعته، وأيضا لتوليهم أهل الشرك وطواغيته على اختلاف ألوانهم، ومظاهرتهم على الموحدين.
فافهم هذا ولا تكن ممن تنطلي عليهم تلبيسات مرجئة العصر وتخبطاتهم، وفرّق بين ما يُكفّر به الرسل وأتباعهم، وبين ما يُكفّر به الخوارج وأشياعهم.
ثم اعلم أن التشريع والاستبدال كفر مجرد لا يقال فيه: هل استحل أو اعتقد أو جحد؟ فهذه التقييدات إنما هي في النوع الآخر الذي خلّط فيه الخوارج.
فأهل الكتاب الذين أنزل الله تعالى فيهم: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31]، كفروا بالتشريع وطاعة المشرعين في ذلك ومتابعتهم لهم على تشريعاتهم، ولا يقال كفروا لاعتقادهم أنه حرم على الحقيقة أو أبيح على الحقيقة أو أنهم استحلوا التشريع (الاستحلال القلبي) أو أنهم اعتقدوا أن لهم حقا في الألوهية أو الربوبية.
يقول الشيخ عبد المجيد الشاذلي في "حد الإسلام وحقيقة الإيمان" (ص 431):
"إن معنى أحلّوه أو حرّموه ليس معناه (الاعتقاد) بمعنى العلم بصحة الشيء والإخبار عنه، بل العمل بمقتضى تحريمهم وتحليلهم من الحكم والتحاكم إليه".
واليهود عندما بدلوا حد الزنا واصطلحوا واجتمعوا على حكم غيره، لم يعتقدوا إباحة الزنا أو استحلاله، بل كانوا يعتقدون حرمته بتحريم الله له، ولا هم زعموا أو قالوا: إن الحكم الذي وضعوه هو من عند الله، ولا قالوا: إنه أفضل من حكم الله أو أعدل، ولا صرّحوا باستحلالهم للتشريع أو أنهم يعتقدون أن لهم حق التشريع، أو شيئا نحوه، بل كفروا بمجرد تواطئهم واجتماعهم واصطلاحهم على حكم وتشريع غير حكم الله وتشريعه، وكانوا أربابا لمن أطاعهم وتابعهم وتواطأ معهم على ذلك التشريع.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في "كتاب التوحيد" (ص 383) بشرحه فتح المجيد:
"من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله".
فالمتبع لتشريع المشرعين المناقض لشرع الله، مشرك اتخذ غير الله ربًا، والمشرع نفسه طاغوت كافر أشرك نفسه مع الله في ألوهية الحكم والتشريع، قال تعالى:
{ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26]، وفي قراءة ابن عامر وهو من السبعة: {ولا تشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26] بصيغة النهي، فالتشريع إما أن يكون إشراك أو اشتراك مع الله في الحكم وكلاهما كفر مجرد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الفتاوى الكبرى" 6/ 339:
"والإيجاب والتحريم ليس إلا لله ولرسوله فمن عاقب على فعل أو ترك، بغير أمر الله ورسوله، وشرع ذلك دينا، فقد جعل لله ندا ولرسوله نظيرا، بمنزلة المشركين الذين جعلوا لله أندادا أو بمنزلة المرتدين الذين آمنوا بمسيلمة الكذاب، وهو ممن قيل فيه: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21]".
ويقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" 7/ 53:
"ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أم كونية قدرية، من خصائص الربوبية...كان كل من اتبع تشريعا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا، وأشركه مع الله".
ويقول 7/ 56:
"وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله، فقد أشرك به مع الله".
ويقول في موضع آخر 3/ 259:
"ويفهم من هذه الآيات كقوله: {ولا يشرك في حكمه أحدا} [الكهف: 26] أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121] فصرح أنهم مشركون بطاعتهم...".
وفي قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} [النساء: 60] يقول 3/ 259:
"وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم".
ويقول عبد المجيد الشاذلي في كتابه "حد الإسلام وحقيقة الإيمان" (ص 383) - طبعة جامعة أم القرى:
"ولا فرق في التشريع بين الإباحة وغيرها، فالمشرع الوضعي لا يأمر بالشرب أو باستحلال الشرب، بل ذلك راجع إلى دين كل فرد في المجتمع وهو يفصل بين الدين والدولة وهو مشرع الدولة، والدين في نظره علاقة بين العبد وربه، وبالتالي فطاعته في ذلك لا شأن لها بالفعل ولا بالاستحلال وإنما في أن يحترم [[4]] هذا التحليل وأن يقر بحقه في ممارسته...وكذلك لا شأن للاعتقاد بمعنى المعرفة بالأمر، فاليهود عندما اصطلحوا على الجلد والتحميم بدلاً من الرجم كانوا متأثمين بذلك يبحثون له عن مخرج فقهي، ولذلك قالوا: انطلقوا إلى هذا النبي فإنه قد بعث بالتخفيف فإن أفتاكم بالجلد والتحميم كان حجة لكم عند الله: {وإن لم تؤتوه فاحذروا} [المائدة: 41].
ويقول عبد الله بن محمد بن أحمد القنائي في كتابه "حقيقة الإيمان" (ص 95) - حول سبب نزول قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] -:
"فإن من المعلوم في سبب نزول الآية أن اليهود إنما غيروا الحكم الذي في التوراة دون حذفه منها، ودون اعتقاد أن هناك حكما جديدا مستأنفا نزل من عند الله، وإنما هم غيروه مع إثبات الحكم الأصلي، وكان ذلك لمجرد اشتداد الأمر عليهم، وعدم قدرتهم على تنفيذه لفسقهم، يقول الطبري في تفسير قوله تعالى: {وكيف يحكموك وعندهم التوراة} [المائدة: 43]: (وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى، والتي يقرون بها، وأنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته على نبيي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه، ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع علمهم بذلك يتولون، يقول: يتركون الحكم به بعد العلم بحكمي فيه جراءة عليّ وعصياناً لي).
والحق أن هذا القول في المسألة لا يحتمل المكابرة، فليس في منطوق العبارات ولا في مفهومها أي إشارة إلى ما يزعمون أنه (الحق الإلهي) الذي بمقتضاه يغير بعض النصارى واليهود الأحكام لما يعتقدون في أحبارهم أن الوحي لا يزال ينزل عليهم ليغيروا ما عندهم بإرادة الله، هذا شيء وما ورد عن كفر من غيّر الشرائع مع إقرارها شيء آخر".
وقريب منه النوع الذي ذكره شيخ الإسلام في "الصارم المسلول" (ص 521) - وهو يتكلم عن أنواع الاستحلال -:
"وتارة يعلم أن الله حرمها ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم [[5]]، فهذا أشد كفرا ممن قبله".
وكذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "كشف الشبهات" (ص 28):
"لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به، فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس يقولون هذا حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق، ولكن لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز - أي: لا يقبل ولا يمشي – عند أهل بلدنا إلا من وافقهم وغير ذلك من الأعذار، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار، كما قال تعالى: {اشتروا بآيات الله ثمنا قليلاً} [التوبة: 9] وغير ذلك من الآيات".
ومثل هذا أو أشد: ما يزعمه بعض طغاة هذا الزمان من أنهم يقرون بشرع الله وبدينه وبأنه الأفضل والأكمل والأحسن والواجب تحكيمه وغير ذلك، ثم يجعلون لأنفسهم حق التشريع كما تقدم من دساتيرهم ويبدّلون حدود الله وأحكامه بقوانينهم وتشريعاتهم النتنة، فهم يزعمون أنهم يؤمنون بالله وبالرسول وبما أنزل إليه وما أنزل من قبله ثم ينصبون أنفسهم أربابا مشرعين وطواغيت يُعبّدون الناس لهم ويلزمونهم اتباع تشريعاتهم المناقضة لشرع الله وطاعتها ويمنعون تحكيم شرع الله ففعلهم هذا بحدّ ذاته فعلٌ وعملٌ كفريّ، مخرج من ملة الإسلام، ولا نبحث فيه عن الاعتقاد والاستحلال.
يقول الإمام ابن حزم في "الفصل" 3/ 114 - في قوله تعالى: {إنما النسيء زيادة في الكفر يُضَلُّ به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زُين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين} [التوبة: 37] -:
"وبحكم اللغة التي نزل بها القرآن أن الزيادة في الشيء لا تكون البتة إلا منه لا من غيره، فصح أن النسيء كفر، وهو عمل من الأعمال وهو تحليل ما حرم الله تعالى، فمن أحل ما حرم الله تعالى وهو عالم بأن الله تعالى حرمه فهو كافر بذلك الفعل نفسه".
 فتأمل قوله: "وهو عمل من الأعمال" وقوله: "أحل ما حرم الله وهو عالم بأن الله حرمه" أنّى تتسرب إليه شبهة الاعتقاد، وفي هذا فائدة في أن الاستحلال كما أنه يكون بالاعتقاد دون العمل تارة وبالاعتقاد مع العمل تارة أخرى فإنه يكون أيضا كذلك عملاً مجردا [[6]].
فالاعتقاد إذن في شأن الاستحلال أو التحليل ليس قيدا في الكفر وإنما هو زيادة فيه، ولا شك أن شرب الخمر أو الوقوع في الزنا أو أكل الربا، كل هذا لا يستوي مع التشريع لذلك بسن القوانين والمراسيم والأنظمة المبدلة لحدود الله أو المهوّنة المسهّلة للخمر والزنا أو المرخصة المبيحة للردة والربا مع حراسة ذلك وحمايته والاجتماع والتواطؤ عليه واصطلاحه كنظام للحكم، فالأول هو الذي يقال فيه عند الكلام في التكفير استحل أو لم يستحل لأنها ذنوب غير مكفرة.
أما الثاني فهو كفر تشريع وتحليل وتحريم ولا يلتفت فيه إلى الاعتقاد ولو أقسم فاعله ألف ألف مرة على أنه غير مستحل قلنا له: {لا تعتذروا قد كفرتم} [التوبة: 66]، وقد كذبكم الله وسمى إيمانكم الذي تدعون زعما.
إذ فرق كبير بين من يرابي متأثما يبتغي لذة عاجلة وبين من يرخص الربا للناس ويشرّع له ويحمي مؤسساته ويتواطأ ويصطلح عليه، وفرق كبير أيضا بين من يشرب الخمر مذنبا وبين من يرخص للناس شربها ويرخص لمحلات الخمر بيعها ويحميها ويُبدّل حد الله في الخمر بتشريعاته الساقطة.
وفرق كبير أيضا بين من يقع في الزنا متأثما استجابة لغواية، وبين من يبدل حد الزنا ويرخص للبغاء بتشريعات تجعل الزنا جريمة فقط في حق الزوج وبيده، فإن رضي الزوج فلا جريمة ولا عقوبة بل هو مباح عندهم [[7]].
فالتشريع وتحريم الحلال أو تحليل الحرام كما فهمت، عمل كفري مجرد وليس كسائر الذنوب التي يشترط فيها اعتقاد الاستحلال، وقد ينضاف إليه الاعتقاد فيكون كفرا مركبا وزيادة في الكفر، وليس هو قيدا أو شرطا للكفر ها هنا، فإن المشركين الذين أحلوا الأشهر الحرم بتبديلها بأوقات أخرى، كانوا يعرفون ويعتقدون في قرارة أنفسهم أن الأشهر المحرمة من عند الله هي تلك الأولى بعينها لا التي استحدثوها وشرعوها واستبدلوها هم، وهكذا كان معتقد اليهود يوم أن (بدلوا) حد الزنا أو (اجتمعوا) أو (اصطلحوا) أو (تواطؤوا) [[8]] على حكم آخر من عند أنفسهم، ولم يستحلوا الزنا ولا صرحوا باستحلالهم القلبي للتشريع والتبديل، فالكفر أو مناطه ها هنا هو عمل التبديل أو التشريع أو الاتفاق أو الاجتماع أو الاصطلاح أو التواطؤ على حكم غير شرع الله تعالى، فسواء قالوا نحن نقر في قلوبنا أو نجحد أن الأشهر التي حرمها الله هي الحق أو أن حد الزنا الذي أنزله الله هو الحق، أم لم يقولوا، فالاعتقاد لا قيمة لذكره ها هنا إلا على سبيل الزيادة في الكفر، لأن فعلهم ذلك بحد ذاته كفر وإشراك مع الله في حكمه، ومن أشرك نفسه مع الله بالتشريع فقد نازع الله في خصوصية من خصوصياته وأمسى طاغوتا مشرعا مع الله، وأتباعه وأنصاره وأشياعه على ذلك هم له عابدون.
٭ ٭ ٭

__________________________
[1] -  وهذا قريب من تقسيم شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية لنوعي الحكم بغير ما أنزل الله في منهاج السنة 5/ 131 - عند قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} - حيث قال:
"فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن، وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا، لكن عصى واتبع هواه، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة".
وقال أيضا:
"ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر".

[2] - وهو الذي خلط فيه الخوارج ويخلط فيه مرجئة الزمان.

[3] - وهذه إشارة للجحد والاستحلال ونحوه.
[4] - وهذا هو الذي يقسم عليه أعضاء البرلمان الشركي والوزراء في يمينهم الدستورية الشركية التي يؤدونها قبل توليهم مناصبهم.
انظر المادة (126 و 91) من الدستور الكويتي، والمادة (43 و 79) من الدستور الأردني.
[5] - "العناد والتفضيل" ألفاظ يتلاعب بها مرجئة العصر ليروّجوا إسلام الطواغيت المشرعين حين يصرحون في الوقت الذي يحاربون فيه الدين ويهدمونه بكل ما أوتوا من وسائل وسبل، فيقولون: (لا شك أن حكم الله هو الأفضل، ونحن نتمنى أن نقدر على تحكيم‍‍ه!! وأنتم أدعوا لنا وأعينوننا) ونحوه من تلبيساتهم التي يوحيها إليهم شياطين الجن والإنس من مستشاريهم المطلعين على غباوة وسفاهة مرجئة الزمان المتصدرين للدعوة والدعاة - إذ أكثر أولئك المستشارين لو راجعت تاريخهم لوجدت لهم جذورا مع جماعات الإرجاء هذه، وما أوصلهم أصلاً لمناصبهم هذه إلا مذهب الإرجاء واستحسانات واستصلاحات جماعاته، وأنا أسأل عن صورة الواقع الذي نعايشه وحسب، بالله ربكم هل هناك أكبر عنادا أو حربا للدين ولشرع الله وتفضيلاً لحكم الطاغوت عليه ممن يعلم ويعرف، ويصرّح بأنه يعلم ويعرف أن حكم الله والشريعة أفضل من حكم الطاغوت، ثم ومع علمه هذا وتصريحه به لا يختار إلا حكم الطاغوت وشرعه، وليس هو اختيارا شخصيا محضا بل ويلزم الناس اتباعه والدخول فيه ويعاقب من تركه أو تعدى حدوده، مع تعديه لحدود الله ليل نهار وترخيصه ودعوته بل وأمره الناس بتعديها بأبواب ووسائل شتى، فإن لم يكن مثل هذا عنادا فليس في الدنيا كلها إذن عناد، ولذا سترى من قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد هذا أنه حكم بالعناد على من ترك التوحيد بعد أن عرفه وجعله كفرعون وإبليس، فكيف بمن حاربه وسعى لهدمه مع تصريحاته بمعرفته، فتارك أصل التوحيد، إما كافر معرض، أو عالم معاند، والمعاند ليس بمحارب في كل الأحوال، بل هناك معاند (محارب) وهناك معاند (متول ملتزم للضد)، ولا شك أن القوم من المعاندين المحاربين ورب الكعبة، ولا يخفى هذا إلا على العميان، وكذلك التفضيل يكون باللسان، ويكون أبلغ بالفعل، وهل التفضيل إلا اختيار المفضَّل واتباعه والأخذ به؟
[6] - ومن هذا الباب تفريق أهل العلم بين الزاني بمحرم من محارمه والعياذ بالله، وبين من تزوج من محارمه فعقد عليها عقد نكاح، راجع "تهذيب الآثار" للطبري 3/ 441، و "زاد المعاد"، وغيره، حيث ذكروا في هذا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وهو صحيح عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم:
"بعث خاله أو عمه إلى رجل تزوج امرأة أبيه فقتله".
وفي رواية عن معاوية بن قرة عن أبيه: "أنه خمس ماله".
فدل على أنه قتله كافرا والروايات جميعا تذكر أنهم أخرجوه وضربوا عنقه ولم يسألوه، هل تزوّجها معتقدا حِلَّ ذلك أم غير معتقد، فصح أن الاستحلال يكون عملاً.
[7] - راجع لتتعرف إلى أمثلة من ذلك في قوانينهم العفنة، كتاب "كشف النقاب عن شريعة الغاب" للعلامة الشيخ أبي محمد المقدسي حفظه الله تعالى ومتّعنا بعلمه وفهمه.
[8] - هذه هي الألفاظ التي عُلّق مناط الكفر بها في الأحاديث الواردة في أمر اليهود وكفرهم لتبديل حكم الله، وهي مناط الحكم بالكفر، وليس في تلك الأحاديث ذكر
للاعتقاد أو الجحود أو الاستحلال فراجعها واحفظها لتلجم بها أفواه مرجئة العصر، ومثل هذا ما أشار إليه الشيخ عبد المجيد الشاذلي في "حد الإسلام وحقيقة الإيمان (ص 428) في الألفاظ التي وصف فيها من اتخذ الأحبار والرهبان أربابا وأشركهم مع الله في التحليل والتحريم، في طرق حديث عدي، فذكر: (فاتبعوهم) (فأطاعوهم) (تأخذون بقولهم) (فحرموه وأحلوه)، ونحوه ولم يرد في شيء منها (فاعتقدوا أنه حلال) وإنما المراد التزام تحريمهم وتحليلهم والاصطلاح والتواطؤ عليه واتخاذه قانونا وحكما، إذ الاصطلاح والتواطؤ والاجتماع على شريعة غير شريعة الله والتزام ذلك ولو في حد أو حكم هو شيء غير الطاعة المجرّدة للمشرع أو لغيره في معصية الله ولو تعددت، والتي يذكر فيها قيد الاستحلال أو الاعتقاد فهما عملان مختلفان يخلط فيهما مرجئة العصر، ولعلهم يستشهدون ببعض كلام شيخ الإسلام الذي يشترط فيه ذلك الشرط في كفر متبعي المشرعين في المعاصي فقط، وهذا حق لا شك فيه ولكنه أمر غير الاصطلاح والتواطؤ على حكم أو حد أو شرع من غير شريعة الله الذي فعله اليهود وكفروا به دونما ذكر للاعتقاد، وهو ما يمارسه الطواغيت وعبيدهم اليوم، أما من اعتقد تحريم ما حرمه المشرعون فهذا مشرك كافر سواء التزمه أو لم يلتزمه، وهذا لا دخل له في موضوعنا هذا، ويجدر التنبيه إلى أن تفصيله ذاك 7/ 70 كان في شأن الأتباع لا المتبوعين، وقد فصلنا القول فيه في رسالتنا الثلاثينية في التحذير من أخطاء التكفير، وذلك لأن الطائع للمشرع ليس بلازم أن يكون متبعا لتشريعه متواطئا عليه ملتزما له في كل حال، بل قد يطيعه بعض العصاة في معصية الله فقط، فلا يكون فعلهم ذلك كفرا إلا مع الاستحلال، فلزم التفصيل في شأن الاتباع لوجود مثل هذه الحالات ولورود الاحتمال، أما المشرعون الذين جعلوا من أنفسهم أندادا لله فمنحوا أنفسهم، بل وغيرهم من النواب خاصية هي من خصائص الألوية (التشريع) فمن السفه كما تقدم أن ينزل في مثل هؤلاء ذلك التفصيل فيقال هل استحلوا أو اعتقدوا؟
واعلم أن هؤلاء الطواغيت قد جمعوا بين الطامتين، فهم مشرعون، وفي نفس الوقت اتباع للمشرعين الدوليين يتواطؤون ويصطلحون على تشريعاتهم ويجتمعون معهم عليها، فقد جمعوا كفرا فوق كفر وظلمات بعضها فوق بعض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام