words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(23) شبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفّر ولا قتل الأنصاري المعترض على حكمه في شراج الحرة ولا المنافقين الذين يصدون عن حكم الله صدودًا ولا الذي قال له (اعدل)




وهذه شبهة لهم متفرعة عن التي تقدمت قبلها، فإنا لما ذكرنا لهم أن الآية السابقة نافية لحقيقة إيمان المعرض عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: فما باله صلوات الله وسلامه عليه لم يكفر المعترض على حكمه في شراج الحرة [[1]] وكذلك المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء: 61] ومثل ذلك الرجل الذي قال في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله).
والجواب على هذا أن نقول: قد تكرر أن الأمر الذي نحن بصدده هو من أصل الدين وقاعدته، ومثل هذا لا يتطرق إليه النسخ أبدا، فلا يصح بحال أن يخدش أو يصادم بحوادث الأعيان التي قد تكون لها ملابسات وتأويلات معينة، بل ينبغي أن يُرد أمثال ذلك - إن أشكل تأويله - إلى أمه وأصله كما هو الحال في المتشابه إذ يُردّ إلى المحكم من القرآن، ولا يجوز أن تُصادم النصوص ويُضرب ببعضها بعضًا.
* أما حديث المعترض على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة وأمر المنافقين الذين يصدون عن حكم الله صدودا فهما كما قدمنا لك في موضوع وسياق واحد، فاحتجاجهم لطواغيتهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفر هؤلاء لا حجة لهم فيه، لأن القرآن قد نزل بعد هذه الحوادث حاكما بكفر كل من يعترض على حكم الله وحكم الرسول، أو يريد التحاكم إلى الطاغوت، فيمتنع أن لا يكفرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إن أصروا عليه ولم يظهروا توبة وندما ورجوعا، ويمتنع أن يقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم على الاستمرار في الطعن في أحكام الله والتحاكم إلى الطاغوت دون أن يُكفرهم ويقتلهم وهو القائل: "من بدل دينه فاقتلوه".
فلزم أن يقال أنهم بعد نزول الآيات لم يصروا على ذلك الكفر، بل تابوا وندموا واستسلموا وانقادوا لحكم الله ولو ظاهرا، قال الإمام ابن حزم في "المحلى" 11/ 202:
"حتى إذا بيّن الله أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، وجب أن من وقف على هذا قديما وحديثا وإلى يوم القيامة فأبى وعَنَدَ فهو كافر، وليس في الآية أن أولئك عندوا بعد نزول الآية".
وهذا تمامًا كالذين استهزأوا بالقراء في غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم، فلا يصح أن يستدل بهذا على أنهم لم يكفروا باستهزائهم [[2]] بل الصواب أن يقال أنهم أظهروا التوبة بعد أن حكم الله بكفرهم، فعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم بظاهرهم، يقول ابن حزم في "المحلى" أيضا 11/ 207 - بعد أن ذكر قوله تعالى:
{ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب..} إلى قوله تعالى: {كانوا مجرمين} [التوبة: 65، 66] -:
"هذه بلا شك في قوم معروفين كفروا بعد إيمانهم، ولكن التوبة مبسوطة لهم بقوله تعالى: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} [التوبة: 66]، فصح أنهم أظهروا التوبة والندامة واعترفوا بذنبهم، فمنهم من قبل الله تعالى توبته في الباطن عنده لعلمه تعالى بصحتها، ومنهم من لم تصح توبته في الباطن فهم المعذبون في الآخرة، وأما الظاهر فقد تاب جميعهم بنص الآية، وبالله تعالى التوفيق".
وهذا صريح في الآيات وليس فيها ولا في الأخبار أنهم أصروا على استهزائهم واستمروا فيه، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه دون أن يقتلهم، بل إن في الآثار المروية في تفسير هذه الآيات كما هو عند الطبري وابن أبي حاتم، أن بعضهم كان يعتذر وهو متعلق بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، إظهارًا للتوبة والندم والرجوع.
- وأما الذي جوّر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال إنه لم يعدل ولا أراد بقسمته وجه الله، فلا شك أنه مرتد - لأن هذا طعن في الرسالة المستلزمة للأمانة - وهذا ما فهمه خالد وعمر رضي الله عنهما مباشرة فاستأذنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتله كما في روايات الحديث، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أناط علّة نهيه عن قتل هذا وأمثاله - في بعض الروايات - بمخافة (أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) ولم يعلقها بعصمة دمه، كما هو الشأن في المسلمين، فدل على أنه كان كافرًا بتلك المقولة، ولو كان مسلمًا لكان ذاك الوصف عديم التأثير وغير مناسب في عصمة دم المعصوم، ولا يجوز تعليل الحكم بوصف لا أثر له، بل لا بد من تعليله بالوصف الذي هو مناط الحكم، وهذا معلوم في كلام أهل العلم في باب (تنقيح المناط)، وقد ذكر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في "الصارم المسلول" (ص 355).
أما عدم قتل النبي صلى الله عليه وسلم له ونهي عمر وخالد عن ذلك، فالجواب عليه كما قال ابن حزم رحمه الله تعالى في "المحلى" 11/ 225:
"أن الله تعالى لم يكن أمر بعد بقتل من ارتد فلذلك لم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نهى عن قتله، ثم أمره تعالى بعد ذلك بقتل من ارتد عن دينه، فنسخ تحريم قتلهم".
وقال أيضًا فيه 11/ 411:
"أما القائل في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم (هذه قسمة ما عدل فيها ولا أريد بها وجه الله تعالى) فقد قلنا أن هذا كان يوم خيبر، وأن هذا قبل أن يأمر الله تعالى بقتل المرتدين، وليس في هذا الخبر أن قائل هذا القول ليس كافرًا بقوله ذلك" [[3]].
فظهر أن لا حجة لهم في ذلك كله، وأنهم لما أفلسوا من الحجج والأدلة، صاروا إلى مثل حوادث الأعيان هذه يريدون أن يناطحوا بها ذلك الأصل الأصيل والركن الوثيق الذي احتججنا به على كفر طواغيتهم إذا هدموه، ويدعون الناس ويأمرونهم بهدمه، ولكن الهاوية التي انزلقوا هاهنا فيها أنهم بتلاعبهم في هذه الأخبار، وباحتجاجاتهم الفاسدة تلك قد نسبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم السكوت عن المرتدين والكفار وإقرارهم على كفرهم، وعدم قتلهم وقتالهم، وما درى هؤلاء المساكين أنهم في مسلكهم هذا يهلكون أنفسهم في سبيل الجدال عن الطواغيت، يقول منجنيق الغرب رحمه الله تعالى:
"ومن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل من وجب عليه القتل من أصحابه فقد كفر وحل دمه وماله لنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الباطل ومخالفة الله تعالى، والله لقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الفضلاء المقطوع لهم بالإيمان والجنة إذ وجب عليهم القتل كماعز والغامدية والجهنية رضي الله عنهم، فمن الباطل المتيقن والضلال البحت والفسوق المجرد، بل من الكفر الصريح أن يعتقد أو يظن من هو مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل مسلمين فاضلين من أهل الجنة من أصحابه أشنع قتلة بالحجارة، ثم يعطل إقامة الحق الواجب في قتل المرتد على كافر يدري أنه ارتد..إلى أن قال:
"ونحن نشهد بشهادة الله تعالى أن من دان بهذا واعتقده فإنه كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال نبرأ إلى الله منه ومن ولايته" [[4]].


٭ ٭ ٭


___________________________________________
[1] -  الحديث رواه البخاري عن عروة، قال:
"خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شراج الحرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصاري: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجهه ثم قال: إسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك. قال الزبير: فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ابن عمته أن يقنع بأقل من حقه في الماء إرضاء للأنصاري، فلما قال الأنصاري ما قال، استوفى للزبير حقه الذي يستحقه كاملاً في صريح الحكم.
[2] -  وقد سمعت ذلك صريحًا من بعض أشياخ المرجئة في الكويت في شريط مسجل بعنوان (الحاكمية) يوزعونه ويفتخرون به، ويحرصون على إعطائه لكل من سمعوه يذكر طواغيتهم بالتكفير، أعطانيه شاب متأثر بشبهاتهم، بعد أن سمعني أتكلم في تكفير طاغوت بلده، والشريط طافح بالتجهم والإرجاء ومنه قوله: (أن الاستهزاء بدين الله كفر عملي لا يكفر فاعله إلا إذا استحله بأن اعتقد أن الشرع محل للاستهزاء)، وغير ذلك من التخبيطات التي ظهر وبان لك بطلانها، فنصيحتي لمقلدته أن يرعووا، ويستروا على شيخهم جهالته بمثل هذه الأصول الظاهرة - خصوصا وأن الشيخ قد توفي - وليكفوا عن نشر ذلك التخبط، رحمة بالشيخ أن يحملوه وزر هذه الضلالات والشبهات، وأوزار من يُضَلّون بها إلى يوم القيامة.
[3] - وخالف هذا ابن الوزير في "إيثار الحق على الخلق" فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكفره، لأنه لم يأت بمكفر أصلاً، و"إنما جوّز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يذنب كذنوب الأنبياء كما قال تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} [طه: 121]، فاعتبره خطأ عظيمًا لا يصل إلى حد الكفر ما دام محققًا للتوحيد باقيًا على شهادة أن لا إله إلا الله محمدًا رسول الله، ولم يقترف ناقضًا، راجعه (ص 399 - 400) توجيه ابن حزم لا شك أقوى.
- أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد أورد ذلك في "الصارم المسلول على شاتم الرسول" (ص 199) ونص على أنه كفر لأن من آذى الرسول فقد آذى الله، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم، واستدل (ص 40) بقوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا} [الأحزاب: 57]، فقرن أذى الرسول بأذاه سبحانه، ولأن الطعن في حكمه وتجويره مناقض لما تضمنته الشهادة من الأمانة (ص 185) وأجاب عن عدم قتله بوجوه:
- منها (ص 187) أن نهيه أصحابه عن قتله كان من باب نهيه لعمر عن قتل ابن الصياد لما شكّوا بأنه الدجال، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن يكن هو الدجال فلن تسلط عليه" لأنه يعلم يقينًا أنه خارج في آخر الزمان لا محالة، وهكذا هذا فإنه أخبر بما أطلعه الله عليه من علم الغيب بأنه سيخرج من ضئضئه لا محالة أقوام يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم... الخ، متيقنًا بأن مفسدة خروجهم غير مدفوعة بقتله، فتركه مخافة مفسدة متيقنة عنده وهي أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه الذين يصلون معه فتنفر بذلك قلوب كثير عن الإسلام من غير مصلحة تغمر هذه المفسدة، خصوصًا وأن ذلك كان حال الضعف والاستئلاف، وهذا وجه ثان وهو الوجه الذي قرره ابن حزم، فذكر شيخ الإسلام (ص 189)، وكذا (ص 178) و (ص 179) و (ص 220) و (ص 223) و (ص 237) و (ص 359) أن ذلك كان قبل أن يؤمر صلى الله عليه وسلم بقتل من أظهر نفاقه وكفره، فقبل بدر حال ضعف المسلمين، كان صلى الله عليه وسلم مأمورًا بالصبر على أذاهم والعفو عنهم في قوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم} [الأحزاب: 48] ونحوه، وأما بعد بدر التي كانت بداية عز المسلمين فكان يقاتل من يؤذيه ممن لا مفسدة في قتلهم، وأما بعد عز المسلمين بفتح مكة وكماله بغزوة تبوك ونزول براءة، فقد نسخ الله الصبر على أذاهم بقوله تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: 113]، فلم يتمكن
بعدها كافر ولا منافق من أذاهم في مجلس خاص ولا عام بل مات بغيظه لعلمه بأنه يقتل إذا تكلم، فتأمل هذا الوجه وهو تفصيل لما ذكره ابن حزم، فإن فهمه يزيل عنك أي إشكال في كثير من حوادث الأعيان التي هي من هذا القبيل، ووجه آخر ذكره (ص 187) وأشار إليه في أكثر من موضع وهو أن مقالة ذلك الرجل كانت في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم وبما يخصه صلى الله عليه وسلم من الأذى (ص 229)، (ص 434) وأنه كان له أن يعفو عمن آذاه مطلقًا في حياته، فكان يعفو عنهم في أمثال ذلك تآلفاً للقلوب، وذكر مثل هذا الأخير (ص 446) عن القاضي أبي يعلى في شأن الأنصاري المختصم مع الزبير، وأما بعد مماته صلى الله عليه وسلم فمن سبّه أو آذاه كان كافرًا حلال الدم وليس للأمة أن تعفو عنه (ص 226).
[4] - باختصار من "المحلى" 11/ 218، وقد كان كلامه ردًا على من زعم أن المنافقين كانوا يظهرون الكفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقرهم ولا يقتلهم، والمبحث نفيس وقد أطال رحمه الله تعالى فيه النفس وأورد كل آية وحديث فيه شبهة من ذلك، وبينها ورد عليها، فراجعه فإنه مفيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام