words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(19) شبهة أن هؤلاء الطواغيت وعبيدهم يقولون (لا إله إلا الله)




وللقوم ها هنا شبهة أخرى متعلقة بما قبلها، قد ورثوها عن أشياخهم المرجئة الأوائل، وهو احتجاجهم ببعض العمومات التي جاءت في أخبار ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أن من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، أو حرم ماله ودمه وكحديث أسامة بن زيد (أقتلته بعد أن قالها...) (وحديث البطاقة) ونحو ذلك..
والحق أن من له اطلاع على كتب أهل العلم، يعرف أنهم قد أشبعوا هذه المسائل ردًا وبيانًا.. ولا مانع استكمالاً للموضوع أن أتخير لطالب الحق نبذًا من مقالاتهم في هذا الباب، خصوصًا وأني قد وجدت وللأسف الشديد من بعض من يكفر بالطواغيت ويتبرأ منهم ولا يجادل عنهم، خلطًا وتخبّطًا فيها، ولا أحسب هذا إلا تأثرًا وتضررًا بمن خالفهم ومشاغباته، من رمي بالتكفير واتهام بسلوك منهج الخوارج ونحوه من ألوان الإرهاب الفكري، والصّدّ والتشويه، التي يمارسها أهل التجهم والإرجاء ممن يتمسحون بطريقة السلف ومنهاجهم زورًا وبهتانًا، لأجل الدفاع عن الطواغيت وحكوماتهم وبرلماناتهم الكفرية.
أما الكلام على هذه الشبهة وإبطالها فهو عند أهل العلم من وجوه عدة، من أهمها أن يتذكر الموحد أن الشرائع أنزلت بالتدريج، وهذا أمر معلوم لكل أحد.
يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الإيمان" (ص 10-13) - بعد أن ذكر قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 59] -:
"إنّا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل به كتابه، فوجدناه قد جعل بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشر سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمنا لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من شرائع الدين، فجعل الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها، وبضعة عشر شهرًا بالمدينة بعد الهجرة [[1]] فلما أثاب الناس إلى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم زادهم الله في إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس، فقال {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم، في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه...وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده، إذ لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء، لا فرق بينهما، لأنهما جميعًا من عند الله وبأمره وبإيجابه، فلو أنهم عند تحول القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه والقبلة التي كانوا عليها، لم يكن ذلك مغنيًا عنهم شيئًا، ولكان فيه نقض
لإقرارهم، فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلى الإقرار، صارا جميعًا معًا هما يومئذ الإيمان، فلبثوا بذلك برهة من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة، وانشرحت لها صدورهم، أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها، فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار وأعطوه ذلك بالألسنة، وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة كان ذلك مزيلاً لما قبله، وناقضًا للإقرار والصلاة، والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمة الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها، ثم كذلك كان شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به ويشملها جميعًا اسم الإيمان، فيقال لأهله مؤمنون، وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب أن الإيمان بالقول،كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية، فأمر بعتقها وسماها مؤمنة، إنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقًا كنزول القرآن" اهـ مختصرًا.
وعلى هذا فإنّ من دخل الإسلام بعد أن أكمل الله لنا الدين، وأقر بـ (لا إله إلا الله) فبرئ من كل شرك وطاغوت، فإن دمه وماله يعصم بذلك، ثم يؤمر بشرائع الإسلام الواجبة على كل مسلم (المباني) فإن عمل بها والتزمها، واجتنب نواقض (لا إله إلا الله) استمرت تلك العصمة التي دخلها بمجرد الإقرار والالتزام لكلمة التوحيد، وإن وقع بناقض من النواقض أو امتنع عن شيء من شروط (لا إله إلا الله) ومبانيها، انقطعت العصمة، على التفصيل في الخلاف المعروف في تلك المباني، ومع مراعاة شروط التكفير وموانعه.
ويفهم هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: (فإن هم أجابوك إليها) أي كلمة التوحيد المستلزمة للتبرّي من دينهم الباطل - (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات...) الحديث.
ولذلك فلو مات من أقر بكلمة التوحيد وبرئ من الشرك وأهله بعد إقراره مباشرة، ولم يقم بأي عمل من أعمال الإسلام المفروضة، لعدم وجوبها عليه، كأن يسلم وقت الضحى ويموت قبل دخول وقت الظهر، فإنه يموت مسلمًا مؤمنًا قد قام بالإيمان الواجب عليه.
وهذا مثل ذلك الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة [[2]] فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال (أسلم ثم قاتل) فأسلم ثم قاتل فقتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَمِلَ قليلاً وأُجِرَ كثيرًا).
فهو لم يعمل بعد دخوله في الإسلام، إلا ما وجب عليه في ذلك الوقت وهو نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات دون أن يركع لله ركعة، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 11/ 519:
"فالرجل إذا آمن بالرسول إيمانًا جازمًا، ومات قبل دخول وقت الصلاة أو وجوب شيء من الأعمال، مات كامل الإيمان الذي وجب عليه، فإذا دخل وقت الصلاة فعليه أن يصلي، وصار يجب عليه ما لم يجب عليه قبل ذلك"ـ.
ويقول 7/ 518:
"إن الله لما بعث محمدًا رسولاً إلى الخلق، كان الواجب على الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ولم يأمرهم حينئذ بالصلوات الخمس، ولا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت، ولا حرم عليهم الخمر والربا، ونحو ذلك، ولا كان أكثر القرآن قد نزل فمن صدقه حينئذ فيما نزل من القرآن وأقر بما أمر به من الشهادتين وتوابع ذلك، كان ذلك الشخص حينئذ مؤمنًا تام الإيمان الذي وجب عليه، وإن كان مثل ذلك الإيمان لو أتى به بعد الهجرة لم يقبل منه، ولو اقتصر عليه كان كافرًا، قال تعالى عام حجة الوداع:
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة: 3]".
فالأمر بعد اكتمال الشريعة كما روى البخاري عن وهب بن منبه أنه قيل له: (أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله)؟ قال: (بلى ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح).
فـ "لا إله إلا الله" لها لوازم ومقتضيات ونواقض ومبطلات، فإن أتى بلوازمها واجتنب نواقضها استمرت العصمة التي دخلها بمجرد الإقرار، وإن أتى بناقض انقطعت ولم تنفعه الكلمة المجردة بعد ذلك.
* وبهذا وأمثاله تفهم معنى إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة لما قتل رجلاً بعد أن نطق بكلمة التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله).
فتلفظه بها إظهار للدخول في الإسلام، فيعامل بها وبما تستلزمه من عصمة، حتى يصدر منه ناقض يقطع تلك العصمة، وإنما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة قطعه بأنه قالها تقية مخافة السيف، وما يدريه لعله صادق سيجتنب نواقضها ويلتزم مقتضياتها وحقوقها بعد ذلك، فـ"لا إله إلا الله" مفتاح الدخول إلى الإسلام، يعصم بها دم الداخل ابتداء ثم لا يدوم إسلامه ولا تستمر عصمته بعد ذلك، إلا بالتزام شروط ذلك المفتاح واجتناب نواقضه، إذ الدخول في الإسلام شيء، ودوام صحته بعد ذلك واستمرارها
وعدم انتقاضه شيء آخر.
يقول الحافظ في "الفتح" 12/ 279 عند الكلام على حديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) باب (قتل من أبى قبول الفرائض) من كتاب استتابة المرتدين:
"وفيه منع قتل من قال لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلمًا؟ الراجح لا [[3]]، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر فإن شهد بالرسالة، والتزم أحكام الإسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله: (إلا بحق الإسلام).
ثم نقل عن البغوي قوله: (الكافر إذا كان وثنيًا أو ثنويًا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال لا إله إلا الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام ...".
وذكر النووي في شرح هذا الحديث عن القاضي عياض قوله: (اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام وقوتل عليه.
فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله: (لا إله إلا الله) إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده فلذلك في الحديث الآخر: (وأني رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة).
ثم قال النووي:
"ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنون بي وبما جئت به) والله أعلم".
وحكى الشوكاني في "نيل الأوطار" 1/ 367 إجماع المسلمين على أن هذه الأحاديث مقيدة بعدم المانع، ولهذا أوّلها السلف، فحكى عن جماعة منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي.
وحكى النووي عن بعضهم أنه قال هي مجملة تحتاج إلى شرح، ومعناه من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها، قال:
"وهذا قول الحسن البصري، وقال البخاري: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك ذكره في كتاب اللباس".
ويقول في رسالة "إرشاد السائل إلى دلالة المسائل" 3/ 88 - مطبوع ضمن مجموعة الرسائل المنيرية:
"السؤال الثاني - حاصله -: ما حُكم الأعراب سكان البادية الذين لا يفعلون شيئا من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة هل هم كفار أم لا؟ وهل على المسلمين غزوهم أم لا؟
قال رحمه الله: من كان تاركًا لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضًا لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين، فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر حلال الدم، وصيانة الأموال إنما تكون بالقيام بأركان الإسلام".
ويقول الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر في رسالته "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" (ص 67):
"قال علماؤنا رحمهم الله إذا قال الكافر لا إله إلا الله فقد شرع في العاصم لدمه فيجب الكف عنه فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت، فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كف عنه وصار دمه وماله معصومًا، ثم بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أن القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين، فقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) فبين أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام".
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في "كشف الشبهات" (ص 24):
"ولهم شبهة أخرى، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله، قال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!) وكذلك قوله:
(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؟) وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر، ولا يقتل، ولو فعل ما فعل، فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعاه إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين ما يخالف ذلك، وأنزل الله في ذلك: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} [النساء: 94]، أي: فتثبتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه، والتثبت، فإن تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله: {فتبينوا} ولو كان لا يقتل إذا قالها، لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله، معناه ما ذكرناه أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه، إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك" اهـ مختصرًا.
وقال (ص 20):
"ويقال أيضًا هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤذنون ويصلون، فإن قال: إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف [[4]] أو صحابيًا أو نبيًا في رتبة جبار السموات والأرض، سبحان الله ما أعظم شأنه: {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} [الروم: 59]".
ونحن نقول بدورنا لمرجئة زماننا: إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه لم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة، فكيف بمن رفع (جابرًا أو حسنًا أو حسينًا أو حُسنيًا) أو غيرهم من الأمراء والرؤساء والملوك، أو نائبًا في البرلمان، في رتبة جبار السموات والأرض فجعل له حق التشريع المطلق الذي لا يكون إلا لله تعالى، وكيف بمن رفع الدستور والقانون في رتبة كتاب الله في الحكم والقضاء والتشريع بين العباد بل جعله مهيمنًا عليه وحاكمًا عليه فلا اعتبار لآية من آياته أو حكمًا من أحكامه ما لم توافق الدستور ويصدق عليها الأمير [[5]] سبحان الله وتعالى عما يصفون: {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون} [الروم: 59].
ثم قال رحمه الله:
"ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمن بني العباس، كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويدّعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه، أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين".
ويقول أيضًا في "مختصر السيرة" في شأن التتار:
"وذلك أنهم بعدما فعلوا بالمسلمين ما فعلوا، وسكنوا بلاد المسلمين وعرفوا دين الإسلام: استحسنوه وأسلموا، لكن لم يعملوا بما يجب عليهم من شرائعه، وأظهروا أشياء من الخروج عن الشريعة ولكنهم كانوا يتلفظون بالشهادتين، ويصلون الصلوات الخمس والجمعة والجماعة، ومع هذا كفّرهم العلماء، وقاتلوهم وغزوهم، حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين، وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله، وأما من أراد فتنته: فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك" اهـ مختصرًا.
ويقول حفيده الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في كتابه "مصباح الظلام" (ص 114):
"وجميع - هذه الاعتراضات - بناء على معتقد باطل، وهو أن من تفوه بالشهادتين لا يضره ذنب، ولا يخل بإيمانه ولا ينقض إسلامه شرك ولا تجهم، ولا غير ذلك من المكفرات، حتى المباني لا تعتبر عند هؤلاء الضلال، ومعرفة هذا القول وتصوره يكفي في بطلانه عند من عرف الإسلام) اهـ مختصرًا.
ويقول أيضًا كما في "الدرر السنية" 12/ 345:
"وأهل العلم والإيمان لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره أو شركه أو فسقه أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين ويأتي ببعض الأركان، وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافها ومناقضتها، وهذا لا يخفى على صغار الطلبة".
قلت: ومع هذا يجادل فيه شيوخ مرجئة زماننا وكبار رؤوسهم، فضلاً عن مقلدتهم ورعاعهم، وهذا ما جعل من أكثرهم جندًا محضرين للطواغيت، وأنصارًا متطوعين يجادلون عنهم ويذودون، ويدفعون في صدر نصوص الكتاب والسنة بشبهاتهم الساقطة، وبأقوالهم الضالة المتهافتة التي لا تروج على من عرف التوحيد وحقيقته.
وهكذا فإن النصوص التي ذكر فيها تعلق العصمة ودخول الجنة بقول لا إله إلا الله، جاءت أحيانًا مطلقة، وأحيانًا أخرى مقيدة باليقين أو الإخلاص أو العلم، وأحيانًا ربطت معها حقوقها من الصلاة والزكاة وهكذا [[6]]، وجميعها نصوص تتكلم في حكم وسبب واحد، فيحمل المطلق فيها على المقيد كما هي طريقة أهل العلم .. وهؤلاء المرجئة كغيرهم من فرق الضلالة، همج رعاع لا يأخذون من العلم إلا ما وافق أهواءهم، فينطلقون إلى تلك النصوص المطلقة، فيبنون عليها مذاهبهم الفاسدة وشبهاتهم الساقطة التي عرفت، ويكتمون مقيداتها. وهذه في الحقيقة ليست مخالفة لطريقة أهل العلم وحسب، بل هي بلا شك من التلاعب في دين الله وافتراء الكذب على الله سبحانه، إذ هو تحريف للكلم عن مواضعه، وتعد لحدود الله التي حدها ووضع كلامه عليها، وتدليس وتلبيس .. {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [النحل: 116].
وكذلك يفعلون بالنصوص التي تروى عن الأئمة، فيقطعون كلامهم [[7]]، أو يأخذون منها ما يوافق أهواءهم، ونحن وإن كنا نعتقد بأنه لا حجة في الدين بغير كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه من الإنصاف أن لا يحمّل كلام أحد ما لا يحتمله، وأن يحمل المطلق من عباراتهم على المقيد منها في المسألة الواحدة، لا كما يفعله هؤلاء الضُلاّل من ذكر ما يوافق مذاهبهم الفاسدة وطرح ما لا يوافقها أو التكتم عليه، وهذا مناقض للأمانة، وليس هو من طريقة السلف وأهل الحديث، بل هذا منهج أهل الأهواء الذين من أخبثهم المرجئة، فأهل الأهواء يروون ما لهم فقط، وأما أهل الحديث فيروون ما لهم وما عليهم.
ومن أمثلة هذا مما قد يتعلق به هؤلاء في موضعنا هذا مما ينسب للإمام أحمد أنه اتبع الزهري في قوله: (كانوا يرون الإسلام الكلمة، والإيمان العمل) ليحكموا بالإسلام على من اكتفى بالشهادتين وإن لم يلتزم الأعمال والفرائض دهره، ثم يخلصون منه إلى إسلام من تلفظ بهما وإن جاء بقراب الدنيا من النواقض، ليصلوا في النهاية إلى الترقيع لطواغيتهم والحكم بإسلامهم، وما يلزم من ذلك من موالاة وعصم للدماء والأموال، فيساهمون بهدم الدين وطمس أوثق عراه ومحو آثاره ومعالمه الأصيلة، شعروا أو من حيث لا يشعرون.
فيقال لهم: على رسلكم، فما هكذا تورد الإبل، وفيما قدمناه الكفاية في إبطال هذا، ولكن الكلام ها هنا على عبارة الإمام أحمد، مع أن الحجة كما قلنا ليست في كلام أحمد ولا غيره وإنما الحجة قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تكلم شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى 7/ 258 على هذه العبارة فقال:
"وهذا على وجهين، فإنه قد يراد به الكلمة بتوابعها من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
(الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)، وقد يراد به الكلمة فقط من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، لكن قد يقال: إسلام الأعراب كان من هذا، فيقال: الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألزموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة والزكاة والصيام والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة، بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها.
وأحمد إن كان أراد في هذه الرواية أن الإسلام هو الشهادتين فقط، فكل من قالها فهو مسلم، فهذه إحدى الروايات عنه.
والرواية الأخرى: لا يكون مسلمًا حتى يأتي بها ويصلي، فإذا لم يصل كان كافرًا.
والثالثة: أنه كافر بترك الزكاة أيضًا.
والرابعة: أنه يكفر بترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ما إذا لم يقاتله، وعنه أنه لو قال: أنا أؤديها ولا أدفعها إلى الإمام لم يكن للإمام أن يقتله، وكذلك عنه رواية أنه يكفر بترك الصيام والحج إذا عزم أنه لا يحج أبدًا. ومعلوم أنه على القول بكفر تارك المباني يمتنع أن يكون الإسلام مجرد الكلمة، بل المراد أنه إذا أتى بالكلمة دخل في الإسلام".
وقد عرفت فيما تقدم الفرق بين الدخول في الإسلام وابتداء العصمة والموت بعد ذلك مباشرة، وبين ما يلزم لدوام صحة الإسلام واستمرار العصمة.
ومما تقدم يظهر لك أيضًا بطلان احتجاجهم لطواغيتهم وعبيدهم، بحديث "البطاقة" وبحديث (أخرجوا - من النار - من كان في قلبه حبة خردل من إيمان) وكذا حديث (الجهنميين الذين يخرجهم الله عز وجل من النار دون أن يعملوا خيرًا قط) ونحوها.
فقد عرفت أن طريقة أهل العلم في ذلك ربط الأحاديث ببعضها، والجمع بين الأخبار ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، ودفع ما يتوهم من تعارضها بحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص، والمتشابه على المحكم، وهكذا.
وأن الفرح بشيء من ذلك وحده والانطلاق به وبناء القواعد والجبال عليه وحده، دون فهمه بربطه مع غيره هي طريقة أهل الأهواء - ومنهم القوم الذين نحن بصددهم أعني المرجئة - حيث يطيرون بهذه الأحاديث كل مطير.
يقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر كما في "الدرر السنية" 11/ 45: 
"إن القرآن فيه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فيرد المتشابه إلى المحكم، ولا يضرب كتاب الله بعضه ببعض [[8]]، وكذلك السنة: فيها محكم ومتشابه فيرد متشابهها إلى المحكم، ولا يضرب بعضها ببعض، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضًا، والسنة توافق القرآن ولا تناقضه، وهذا أصل عظيم يجب مراعاته، ومن أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري".
وقد فصل الشاطبي رحمه الله تعالى ذلك قبله أحسن تفصيل فقال في "الموافقات" 3/ 312-314:
"إن ذوي الاجتهاد لا يقتصرون على التمسك بالعام حتى يبحثون في مخصصه وعلى المطلق هل له مقيّد أم لا؟ فالعام مع خاصه هو الدليل، فإن فقد الخاص، صار العام - مع إرادة الخصوص فيه - من قبيل المتشابه، وصار ارتفاعه - أي الخاص - زيفًا وانحرافًا عن الصواب.
ولأجل ذلك عدت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] وتركوا مبينه.
وكذلك الخوارج حيث اتبعوا قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله} [يوسف: 40] وتركوا مبينه: {يحكم به ذوا عدل منكم}، وقوله: {فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها}.
واتبع الجبرية قوله: {والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96]، وتركوا بيانه، وهو قوله: {جزاء بما كانوا يكسبون} [التوبة: 82].
وهكذا سائر من اتبع هذه الأطراف من غير نظر فيما وراءها، ولو جمعوا بين ذلك ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل، لوصلوا إلى المقصود، فإذا ثبت هذا فالبيان مقترن بالمبين، فإذا أخذ المبين من غير بيان صار متشابهًا، وليس المتشابه في نفسه، بل الزائغون أدخلوا فيه التشابه على أنفسهم فضلوا عن الصراط المستقيم" اهـ مختصرًا.
قلت: وكذلك أفراخ المرجئة، يتّبعون أمثال تلك الأخبار، ويتمسكون بها ليرقعوا بها دين أهل الشرك والضلال من طواغيت الحكام وعبيدهم وأنصارهم وأشياعهم، ويتركون مبيّنها مما تقدم من أن المراد تحقيق التوحيد والبراءة من الشرك والتنديد، والموت على ذلك، بل والإتيان من الأعمال بما لا يصير المرء مسلمًا إلا به.
فيكون المراد بالسجلات التي وضعت في الكفة المقابلة للبطاقة صغائر الذنوب وكبائرها مما لا ينقض التوحيد، والمراد بالبطاقة تحقيق التوحيد والكفر والبراءة مما يعبد من دون الله لزامًا.
وكذلك الشأن فيمن قيل فيهم لم يعملوا خيرًا قط، أي: فوق مقتضيات التوحيد المنجية من الخلود في النار.
وكذا حديث: (أخرجوا - أي: من النار - من كان في قلبه حبة خردل من إيمان) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 1/ 73:
"والمراد بحبة الخردل هنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد، لقوله في الرواية الأخرى: (أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعملوا من الخير ما يزن ذرة)".
ثم نحن نوجه إلى مرجئة العصر هؤلاء سؤالاً واضحًا لا نرضى عنه حيدة ولا محيصًا، هؤلاء الذين احتججتم بهم في هذه الأحاديث لإنقاذ طواغيتكم من الكفر، هل يقولون لا إله إلا الله وينكرون بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؟
أو يقولون: لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله؟
أو يقولون: لا إله إلا الله وأحمد غلام ميرزا رسول الله؟
أو يقولون: لا إله إلا الله وأن الله هو علي بن أبي طالب أو المسيح أو غيره من الخلق؟ ومع هذا خرجوا من النار وكان مصيرهم مصير الموحدين؟
فإن قالوا بذلك فقد أشهدوا الثقلين على فساد عقولهم وتجرئهم على دين الله بل وعلى كفرهم وزندقتهم وإلحادهم في دين الله.
وإن نفوه.
سألناهم أبدليل من تلك الأحاديث ذاتها، نفيتم ذلك أم بدليل غيره؟ فإن قالوا: من ذات الأحاديث، كذبوا وطالبناهم به ولن يستطيعوه، وإن قالوا: من خارج الأحاديث، لزمهم ولزم كل أحد أنّ أمثال هذه الأحاديث لا تفهم بمجردها، وإنما بمجموع النصوص المبينة لها.
* وبمثل هذا يلزمون إن احتجوا بحديث حذيفة الذي أخرجه الحاكم وابن ماجه:
"يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ويسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا تبقى من الأرض منه آية ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والمرأة العجوز يقولون: "لا إله إلا الله" أدركنا آباءنا على هذه الكلمة فنحن نقولها وهم لا يدرون ما صلاة ولا صدقة ولا نسك، فقال صلة بن زفر لحذيفة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة ثلاثًا، ثم قال: يا صلة تنجيهم من النار".
والحديث قد صححه الألباني مع أن في إسناده أبا معاوية محمد بن خازم التميمي السعدي الكوفي الضرير وهو مدلس مضطرب الحديث، لا تقوم بحديثه حجة في غير الأعمش كما ذكر الأئمة، وهو ها هنا قد رواه من غير طريق الأعمش وقد عنعن أيضًا، أضف إلى هذا أنه كان يرى الإرجاء! [[9]].
وعلى كل حال، فبفرض صحة الحديث، فإن القوم كما قلنا يُلزمون بما قدمناه من ضرورة فهمه على ضوء غيره من الأحاديث المبينة، فيحمل قوله: (يقولون لا إله إلا الله)
أي: يحققون التوحيد ويجتنبون الشرك والتنديد، وليس التلفظ بالكلمة مجردة.
ثم هؤلاء لم يبلغهم القرآن ولا شيء من شرائع الدين، فعلى فرض وقوع مثل ذلك بعد ختم الرسالة، وقد حققوا التوحيد فقد أتوا بالإيمان الواجب عليهم وعلى أمثالهم، لأن الإنذار إنما يكون بكتاب الله تعالى: {وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19]، وهؤلاء لم يبلغهم كتاب الله، فتحقق أن جهلهم بشرائع الدين ومبانيه الواجبة لم يحصل عن تقصير في طلب الحق أو إعراض، وإنما لرفع الكتاب وهو أمر قهري خارج عن إرادتهم، فيعذرون بتفاصيل تلك الشرائع التي لا تعرف إلا عن طريق الوحي ما داموا قد حققوا الحنيفية التي فطر الله الناس عليها [[10]].
وحالهم قريب من حال من حقق التوحيد قبل البعثة، كزيد بن عمرو بن نفيل فإنه من القوم الذين قال الله تعالى فيهم: {لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} [يس: 6]، وقال: {لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} [القصص: 46] فما بلغته من تفاصيل الصلاة والصيام ولا الزكاة المفروضة علينا ولا أتى بشيء منها.
ومع هذا عذر فيها لأنه حقق أصل الإيمان الواجب في حقه وحق كل أحد كاملاً ألا وهو الحنيفية، اجتناب الشرك وتحقيق أصل التوحيد، فكان على ملة إبراهيم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث أمة وحده يوم القيامة، بل حالهم كحال من آمن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومات بمكة قبل نزول الشرائع فقد أتى هؤلاء بالإيمان الواجب عليهم آنذاك، ما داموا قد حققوا التوحيد واجتنبوا الشرك والتنديد وشهدوا برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الجواب كله إنما يكون بعد إثبات صحة الحديث، وصحة كون زيادة "يا صلة تنجيهم من النار" مرفوعة لا مدرجة من قول حذيفة رضي الله عنه.
والحاصل مما تقدم كله أن يتيقن الموحد من أن "تحقيق التوحيد والبراءة مما يضاده من كل شرك مخرج من الملة وتنديد" أصل الدين وقاعدته، وقوام دعوة الرسل وقطب رحاها، وأن جميع الشرائع جاءت لحفظه وتحقيقه وصيانته، وأن هذا أمر محكم لا يتطرق إليه التشابه بحال، فالواجب مع كل خبر يشتبه على أحد من الناس أو يتوهمه المتوهمون معارضًا لهذا الأصل المحكم، أن يدرج تحته ويحمل عليه، لأنه هو (أم الكتاب وأصله) لا أن يصادم به ويعارض، فضلاً عن أن يسعى لهدمه بتلك الأخبار كما يفعله مرجئة العصر لأجل سواد عيون طواغيتهم {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذّكّر إلا أولوا الألباب} [آل عمران: 7]، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياك من الراسخين في العلم، يقول الشاطبي في "الاعتصام":
"لا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية، لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملاً فهي في محل التوقف، وإن اقتضت عملاً فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم، فمن عكس الأمر حاول شططًا ودخل في حكم الذم".
وفي هذا القدر الكفاية لطالب الحق في هذا الباب، وأما من يرد الله فتنته، فلن تملك له من الله شيئًا.

٭ ٭ ٭
 ______________________
 [1] -  وبهذا يظهر لك أيضًا بطلان شبهة من شبهات مرجئة العصر، وهي ترقيعهم لطواغيتهم، بزعمهم أن النجاشي حكم بغير ما أنزل الله بعد أن أسلم ومع هذا لم يكفره
النبي صلى الله عليه وسلم بل شهد له بالإسلام وصلى عليه لما مات، {كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا} بل قد حكم بما أنزل الله إليهم آنذاك، واتبع ما كان
مفترضًا عليهم في ذلك الوقت، إذ لم يكن التشريع قد كمل وقتها، فكان الاستسلام والإنقياد والإقرار بلا إله إلا الله وما حوته من البراءة من كل ما يعبد من دون الله هو الإيمان واتباع الشرع والحكم بما أنزل الله آنذاك، خصوصًا إذا عرفت أن النجاشي كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهد أنه رسول الله آنذاك صادقًا مصدقًا بل ويبايعه على الإسلام، حتى إن بعض الحبشة خرجوا عليه ينازعونه ملكه وأنه انتصر عليهم واستقر له أمر الحبشة بعد ذلك وأقره قومه على الإسلام واتبعه الأساقفة والرهبان، وانظر "زاد المعاد" 3/ 62 ثم مات بعد إسلامه بيسير، وذلك قبل أن تكتمل الشرائع.
أما النجاشي الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الإسلام فهو غير النجاشي المسلم الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، وقد أشار إلى هذا أيضًا ابن القيم في "زاد المعاد"، وذكر الوهم الذي وقع فيه بعض الرواة في خلطهم بين الاثنين،
وراجع في هذا أيضًا كتاب "الإيمان" لعبد الله القنائي (ص 149) وما بعدها.
[قال أبو سامي العبدان حسن التمام: إن النجاشي رحمه الله تعالى قد أظهر الإسلام والموافقة على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما قاله الصحابة في حضرته، ولم يبال بمخالفة أركان دولته له، ولم يكن ينقاد لأحد منهم، وكان يعمل بما بلغه من أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما لم يبلغه فهو معذور فيه، ولم تكن شرائع الدين قد اكتملت، وهو قد مات رحمه الله تعالى قبل أن يكتمل الدين، فقد أدى ما وجب عليه من العمل بما بلغه من الشرع حتى لقي ربه، وما خالف ذلك من الأقوال فلا دليل عليه.
ثم إن قياس الحكام الذين بدّلوا الشريعة بما وقع للنجاشي لمن القياس الفاسد، والرأي الكاسد، ذلك أن النجاشي لم يكن يحكمهم بشرائع الإسلام ثم بدلها إلى شرائع الكفر،
فقياسه على الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله لمن أبطل الباطل، فإن الأحكام قد استقرت، وأكمل الله تعالى الدين، وأظهره على الدين كله، وتعهّد بحفظه، فلا يجني جان إلا على نفسه، وانظر تفصيل ذلك في مقالة لطيفة كتبتها في هذا الموضوع اسمها "دفاع عن الملك الصالح النجاشي رحمه الله تعالى ورضي عنه"].
[2] - رواه البخاري وغيره من حديث البراء، وذكر ابن حجر في الفتح (كتاب الجهاد) باب (عمل صالح قبل القتال) أن الغزوة كانت أحد، وذكر عن مغازي ابن إسحاق بإسناد صحيح أن أبا هريرة كان يقول فيه: (رجل دخل الجنة ولم يصل صلاة) وأن اسمه عمرو بن ثابت، فافهم القصة جيدا ولا يلبس عليك مرجئة العصر ويأتوك بلفظ النسائي مبتورا، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة: (لو أني حملت على القوم فقاتلت حتى أقتل أكان خير لي ولم أصل صلاة؟ قال: نعم) ويزعمون أن هذا كان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم تاركا للصلاة ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا كفّره، بل كان من أصحابه وأخرجه معه مجاهدا وأخبره بأنه لو مات على ذلك لمات على خير، فسحقًا لهذه الأفهام والعقول التي لا تشترى ولا بالبقول، إذ قد علمت أن هذا الرجل قد أسلم في تلك الغزوة للتو، وروايات الحديث يبيّن بعضها بعضًا.
[3] - قوله (الراجح) إشارة إلى الخلاف، وأن الحافظ يرجح هذا، والراجح عندنا أن يحكم له بالإسلام ابتداء ويدخل في العصمة ما دام قد تلفظ بالكلمة للدخول في الإسلام، ولا مانع من التثبت، لقوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا..} إلى قوله: {فتبينوا} فنهانا الله عز وجل عن نفي الإسلام عمن أعلن الدخول فيه إلا أن
يظهر بعد ذلك ناقضًا أو مكفرًا - دون مانع من موانع التكفير، فعندئذ ينتفي الإسلام وتنقطع العصمة، فالدخول في الإسلام وابتداء العصمة شيء، واستمرار صحتها وصحة الإسلام شيء آخر، وهو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحق الإسلام) كما أشار الحافظ، وهذا الكلام على الداخل للإسلام حديثًا، أما الرعاع الذين ملؤوا أقطار الدنيا ولا يأتون منذ مولدهم وطول دهرهم من الإسلام إلا التلفظ بهذه الكلمة، مع الإتيان بنواقضها وعدم التزام شروطها والإعراض عن تعلم معناها مع توفر مظنة العلم وقيام الحجة عليهم ببلوغ القرآن إليهم {لأنذركم به ومن بلغ} فهؤلاء كفرة معرضون استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ولا ينطبق عليهم الكلام المشار إليه بحال.
[4] - يوسف وشمسان وكذا الخضر وأبو علي والأشقر: أسماء تتكرر في كتب الشيخ، وقد كانت قبورًا وقبابًا يدعوها مشركو الكويت والعراق وغيرهم من دون الله في زمن الشيخ انظر "مصباح الظلام" للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ.
[5] - إن كان هذا كله مما يخفى على القارئ فوا أسفاه على عمر يضيع دون أن يتبصر المرء بطواغيت زمانه ويكفر بها، فليراجع في ذلك كتابنا "كشف النقاب عن شريعة الغاب".
[6] - أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن مثل هذا بجوابين:
"أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب - السائل - بحسب نزول الفرائض. وأول ما فرض الله الشهادتين، ثم الصلاة..وهكذا..).
 والثاني: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض الظاهرة التي تقاتل على تركها الطائفة الممتنعة كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة ما يجب
على السائل، فمن أجابه الصلاة والصيام لم يكن عليه زكاة يؤديها..وهكذا..) إلى آخر كلامه فراجعه في "الفتاوى" 7/ 605 ، 607.
[7] -  انظر أمثلة صريحة لهذا من كتاباتهم في كتابنا "تبصير العقلاء بتلبيسات أهل التجهم والإرجاء".
[8] -   كما احتج عليّ بعضهم - وهو مع الأسف ممن ينتسبون إلى طلب العلم - بقوله تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} على إمكان أن يشرك الإنسان بالله
الشرك الأكبر ومع هذا لا يفارق الإيمان ويبقى مصيره مصير الموحدين، وسماه (كافرًا مليًّا)، وهذا مما لم يسبقه إليه أحد، وإنما الصواب المستعمل في هذه اللفظة عند أهل العلم قولهم: (فاسق مليّ) أي: أنه عاص لا يخرج بعصيانه عن ملة الإسلام، أما الكافر فلا ينسب إلا إلى ملّته الكفريّة، وأما القول في تفسير الآية، فهو واضح معروف في متناول اليد في أي تفسير من تفاسير أهل السنة، وخلاصة ما قيل فيها إن حملت على الشرك الأكبر لا يخرج عن الآتي:
- إما أن يراد بها المشركون من عبدة الأوثان الذين يؤمنون بالربوبية: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} ويشركون في العبادة.
- أو يراد مشركوا أهل الكتاب، آمنوا بالله وكفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
- أو يراد المنافقون، آمنوا باللسان وكفروا بقلوبهم.
وجميع أنواع الإيمان هذه بالاتفاق غير منجية من النار وأصحابها بالاتفاق ليس لهم مصير الموحدين.
* ولا يجوز أن يحمل الإيمان المذكور بالآية على إيمان المسلمين المنجي من النار، إلا أن يراد بالشرك المقرون معه، الشرك الأصغر، وهذه في الحقيقة من المسلّمات البدهيات عند صغار الطلبة، ولكن الخصومة أحيانًا تعمي وتصم.
[9] - وقد رجّح ابن حجر في "نخبة الفكر" وشرحه "نزهة النظر"، رد رواية المبتدع إذا كانت مما يقوي وينصر بدعته، فهي ها هنا من هذا الباب، فكيف إذا انضاف إلى هذا التدليس والاضطراب.
قال أبو سامي العبدان حسن التمام:
"إسناده صحيح على شرط مسلم - أخرجه ابن ماجه (4049) حدثنا علي بن محمد، والبزار (2838)، والحاكم 4/ 473، والبيهقي في "الشعب" (1870)
عن أبي كريب محمد بن العلاء، والحاكم 4/ 545 من طريق أحمد بن عبد الجبار، ومسدد في "مسنده" كما في "مصباح الزجاجة" 4/ 194، و "إتحاف الخيرة" (7489) أربعتهم عن أبي معاوية محمد بن خازم، عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره.
وقال البزار:
"ولا نعلم أحدا أسنده إلا أبو كريب، عن أبي معاوية".
وليس كما قال البزار، فقد تابع أبا كريب: علي بن محمد الطنافسي، وأحمد بن عبد الجبار العطاردي، ومسدد بن مسرهد.
وقال الحاكم:
"هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.
وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" 4/ 194:
"هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رواه مسدد في "مسنده" عن أبي عوانة عن أبي مالك بإسناده ومتنه ورواه الحاكم في "المستدرك" من طريق أبي كريب عن أبي معاوية به.
وقال: صحيح على شرط مسلم".
وأخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (1665) حدثنا أبو معاوية، حدثني أبو مالك الأشجعي به موقوفا على حذيفة.
ونعيم بن حماد: صدوق يخطئ كثيرا، والمحفوظ عن أبي معاوية رفعه.
وأخرجه الحاكم 4/ 505 من طريق محمد بن فضيل (وهو عنده في "الدعاء" (15))، والبزار (2839) من طريق أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (577)، والخطيب في "تاريخ بغداد" 1/ 416 من طريق خلف بن خليفة، ثلاثتهم عن أبي مالك الأشجعي به موقوفا".
[10] - بخلاف من بلغه القرآن فأعرض عنه ولم يحقق التوحيد، فإنه يؤاخذ بالفروع والأصول ولا يعذر بشيء من ذلك على الصحيح. قال تعالى:
{ما سلككم في سقر . قالوا لم نك من المصلين . ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخائضين . وكنا نكذب بيوم الدين . حتى أتانا اليقين . فما تنفعهم شفاعة الشافعين}، وقال تعالى: {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم . ولا يحض على طعام المسكين} فتأمل ما في مؤاخذتهم من فروع وأصول، والكلام في هذا يطول، وتفاصيله تجدها في رسالتنا "الفرق المبين بين العذر بالجهل والإعراض عن الدين".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام