words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

السبت، 29 فبراير 2020

(10) كشف شبهة التفريق بين الكافر الأصلي والكافر المحلي


إنه لا علة للتفريق بين الكفار المتسلطين على المسلمين سواء كانوا يهودا أو حكاما مرتدين، إذ إن علة وجوب جهادهم قائمة في الحالتين وهو وصف الكفر، كما أن الكافر المحلي صار بكفره أجنبيا عن المسلمين لقوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، ذلك أن الحكام المرتدين هم أيضا عدو كافر متسلط على بلاد المسلمين وأن جهادهم – لذلك - فرض عين، بل إن جهادهم مقدم على جهاد اليهود لسببين:
القرب والردة، بل إن اليهود لا يستقر لهم مقام بفلسطين، إلا في كنف هؤلاء الحكام الطواغيت المرتدين.
قال ابن قدامة في "المغني" 10/ 368:
"ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو، الأصل في هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، ولأن الأقرب أكثر ضررا، وفي قتاله دفع ضرره عن المقابل له وعمن وراءه، والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه...إذا ثبت هذا فإن كان له عذر في البداية بالأبعد لكونه أخوف أو المصلحة في البداية به لقربه وإمكان الفرصة منه، أو لكون الأقرب مهادنا أو يمنع من قتاله مانع فلا بأس بالبداية بالأبعد لكونه موضع حاجة".
وجهاد الطاغية المرتد أولى من جهاد الكافر الأصلي، يقول شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" 35/ 158-
159:
"والصدّيق رضي الله عنه وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، وجهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدم على الربح".
ويقول 28/ 534:
"ولهذا كان مذهب الجمهور أن المرتد يقتل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد، ومنها أن المرتد لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي إلى غير ذلك من الأحكام".
ويعتبر جهاد هؤلاء الطواغيت جهاد دفع متعين، وهو فرض، وهو المراد من قول ابن حجر في "الفتح" 13/ 123:
"فيجب على كل مسلم القيام في ذلك".
 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "الفتاوى الكبرى" 5/ 538:
"وأما قتال الدفع، فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان".
والتفريق بين الكافر المحلي والكافر الأجنبي لم يرد فيه نص، ذلك لأن علة التفريق بين المؤمن والكافر هي صفة الكفر، فكما أن كل مسكر حرام، سواء كان اسمه خمرا أو كحولا أو نبيذا، وسواء كان محليا أو مستوردا، وسواء كان لونه أبيضا أو أحمرا، كل هذه ليست هي الأوصاف المؤثرة في الحكم، وإنما الوصف المؤثر وهو العلة، ومناط الحكم هو الاسكار.
ولهذا فإنه لا اعتبار لقول الشيخ الألباني في تعليقه على "الطحاوية" (ص 77):
"اعلم أن الجهاد على قسمين: الأول فرض عين، وهو ضد العدو المهاجم لبعض بلاد المسلمين، كاليهود الذين احتلوا فلسطين، فالمسلمون جميعا آثمون حتى يخرجوهم منها".
فعجبا لأمر الشيخ كيف يقصر الجهاد على العدو المهاجم (وهم اليهود) ويعتبره فرض عين، بينما يدعو إلى التصفية والتربية لدرء ظلم الحكام وخروجهم عن الشرع، وحكمهم بغير حكم الله، فيقول كما في الشريط (670):
"هبوا يا جماعة أن هؤلاء فعلا كفار كفر ردة، وأنهم لو كان هناك حاكماً أعلى عليهم، واكتشف منهم أن كفرهم كفر ردة، لوجب على ذلك الحاكم أن يطبق فيهم الحديث السابق: (من بدل دينه فاقتلوه).
فالآن: ماذا تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلّمنا - جدلاً - أن كل هؤلاء الحكام هم كفار كفر ردة؟! ماذا يمكن أن تعملوا؟ هؤلاء الكفار احتلوا كثيرا من بلاد الإسلام ونحن هنا - مع الأسف - ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين، فماذا أنتم ونحن نستطيع أن نعمل مع هؤلاء، حتى تستطيعوا أنتم أن تعملوا مع الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار؟!
هلا تركتم هذه الناحية جانبًا، وبدأتم بتأسيس وبوضع القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة، وذلك باتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ربى أصحابه عليها، ونَشّأهم على نظامها وأساسها".
 وفي قوله: (ماذا تستفيدون أنتم من الناحية العملية)، وقوله: (ماذا يمكن أن تعملوا؟) تثبيط عن الجهاد، وتخويف للناس من الكفار، والله عز وجل يقول: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36]، والله عز وجل ما أمرنا بالخوف من الكفار، أو أن نخيف الناس منهم، أو أن نغض الطرف عن كفرهم وفسادهم بدعوى الاستضعاف، وانظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم مستضعفا في مكة يجهر بالحق ويدعو الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويعيب آلهة قريش ويسفه أحلامهم، يقول عليه الصلاة والسلام:
"...تسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح".
أخرجه أحمد 2/ 218، والبيهقي في "الدلائل" 2/275 بإسناد حسن من حديث عبد الله بن عمرو.
 والذبح هو القتل كما أشار إليه البيهقي في "الدلائل"، وقد أمره الله تعالى بالجهاد ولو لوحده كما قال عز وجل: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: 84].
وفي غزوة مؤتة ينادي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في أصحابه قائلا:
"يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة".
أخرجه الطبراني 13/ (428)، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 119، والبيهقي في "الدلائل" 4/ 358 من مراسيل عروة، وقال الهيثمي في "المجمع" 6/ 159:
"ورجاله ثقات إلى عروة".
وأما كلام الألباني هذا فهو كقوله - في شريط (720) -:
"إن الجهاد الواجب هو إنما على المسلمين الذين يتعاونون على القيام بما فرض الله عز وجل عليهم من جهاد الكفار وإخراجهم من البلاد الإسلامية التي احتلوها".
فكيف يقول الشيخ بأن على المسلمين جهاد الكفار بينما يعتبر أن الحكومات عطلت الجهاد؟ يقول في شريط (720):
"فأول ظاهرة تدل على أنها لا تحكم بما أنزل الله أنها لم تعلن الجهاد في سبيل الله".
وكيف يتحدث عن جهاد اليهود المحتلين بينما ينكر جهاد الطواغيت المحليين الذين يقر بكفرهم؟ يقول في كتابه "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام" (ص 91):
"فقد سمعت كثيرا منهم يخطب بكل حماسة وغيرة إسلامية محمودة ليقرر أن الحاكمية لله وحده ويضرب بذلك النظم الحاكمة الكافرة، وهذا شيء جميل وإن كنا الآن لا نستطيع تغييره".
وشعار (التصفية والتربية) [[1]] حق أريد به باطل!
أما شعار التصفية والتربية الذي حمله الشيخ من أجل تأسيس القاعدة، فصحيح، وهذا الشعار حق وإن كان مرجئة العصر أرادوا به الباطل، ذلك أن تأسيس القاعدة ينبغي أن يقوم على الجهاد في سبيل الله لإقامة شرع الله في الأرض، وعلى الكفر بالطاغوت، قال عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 256]، والبراءة من الكفار {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، وإظهار البغض والعداوة للكافرين: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة: 4]، لا على الانتصار للطواغيت المرتدين والمجادلة عنهم، فالتصفية ليست قاصرة فقط على الأحاديث النبوية الصحيحة من الموضوعة، والسنة من البدعة، والفقه من الآراء الحادثة أو المرجوحة، بل هي بالأساس تصفية للتوحيد من الشرك بكل أنواعه ومنه شرك الحاكمية والتشريع، ثم التربية على الجهاد من أجل تحقيق شرع الله تعالى في الأرض والتمكين لدينه وللمؤمنين.
وإذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر، فإنه لا معنى للقول بأن العلم الشرعي شرط من شروط وجوب الجهاد، بل إن العلم والتربية هما جزء من الإعداد له، قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" 10/ 361:
"ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة".
وشرط طلب العلم قبل القتال شرط باطل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط" متفق عليه ومن حديث عائشة.
وإذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار أو عسكر كثير الفجور وجب الجهاد، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، قال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 506- 507:
"ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر وفاجر، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه إذا لم يتفق الغزو إلا مع الأمراء الفجار، أو مع عسكر كثير الفجور، فإنه لا بد من أحد أمرين:
إما ترك الغزو معهم فيلزم من ذلك استيلاء الآخرين الذين هم أعظم ضررا في الدين.
وإما الغزو مع الأمير الفاجر فيحصل بذلك دفع الأفجرين وإقامة أكثر شرائع الإسلام وإن لم يمكن إقامة جميعها، فهذا هو الواجب في هذه الصورة، وكل ما أشبهها، بل كثير من الغزو الحاصل بعد الخلفاء الراشدين لم يقع إلا على هذا الوجه".
وقد بوّب الإمام البخاري رحمه الله لحديث عروة الباقي رضي الله عنه باب (الجهاد ماض مع البر والفاجر).
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم.
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث 6/ 56:
"وفيه أيضا بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة، لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون وهو مثل الحديث الآخر: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق...الحديث)".
وقال ابن حزم رحمه الله في "المحلى" 7/ 300:
"ولا إثم بعد الكفر أعظم من إثم من نهى عن جهاد الكفار، وأمر بإسلام حريم المسلمين إليهم من أجل فسق رجل لا يحاسب غيره بفسقه".
- وهنا يرِدُ سؤالٌ - هل يشترط طلب العلم قبل الجهاد؟!
لا دليل على اشترط طلب العلم قبل الجهاد من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو من سيرته عليه الصلاة والسلام أو سيرة صحابته رضوان الله عليهم، أو من سيرة السلف الصالح.
فقد ورد عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه أنه قال:
"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، ويقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبن سنن من كان قبلكم".
وقد خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين اثنا عشر ألفا من الصحابة منهم ألفان من مسلمة الفتح الذين خرجوا معه بعد شهر واحد من إسلامهم، ولم يشترط عليهم النبي عليه الصلاة والسلام طلب العلم الشرعي قبل خروجهم معه للجهاد في سبيل الله.
وقد روى البخاري رحمه الله عن البراء رضي الله عنه قال:
"أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال صلى الله عليه وسلم، عمل قليلا وأجر كثيرا".
أخرجه البخاري (2808) واللفظ له، ومسلم (1900)
يقول صاحب "العمدة في إعداد العدة" (ص 327):
 "...إن كان صاحب هذه المقولة - وهي وجوب طلب العلم قبل الجهاد - يعني بذلك فرض العين من العلم الشرعي، فنقول: هذا متيسر بأقل زمن، ولا يلزم معرفته بأدلته الشرعية التفصيلية على الكافة، لما نقله ابن حجر عن القرطبي قال: (هذا الذي عليه أئمة الفتوى ومن قبلهم من أئمة السلف، واحتج بعضهم بما تقدم من القول في أصل الفطرة، وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة أنهم حكموا بإسلام من أسلم من جفاة العرب ممن كان يعبد الأوثان، فقبلوا منهم الإقرار بالشهادتين والتزام أحكام الإسلام من غير إلزام بتعلم الأدلة) وإن كان صاحب هذه المقولة يعني بلك فروض الكفاية من العلوم الشرعية، وأنه لا يجاهد المسلم حتى يحصل قدرا معينا من العلوم الشرعية، فهذا قد أخطأ من وجهين:
الوجه الأول: أنه جعل فرض الكفاية فرض عين، وهذا يفضي إلى تعطيل مصالح المسلمين بقعودهم جميعا لطلب العلم، وقد نهى الله عز وجل عن هذا بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، وكما ترى فقد قسم الله تعالى الناس في هذه الآية إلى متفقهة وغير متفقهة تماما، كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
الوجه الثاني: أنه جعل شرطا لوجوب الجهاد ما ليس بشرط...".
والشيخ الألباني يشترط للإعداد في سبيل الله خلو المرء من الذنوب والمعاصي والمحافظة على كل ما أمر الله به ورسوله، يقول كما في "فتاوى الألباني" (ص 448):
"لمن الخطاب في قوله {وَأَعِدُّوا لَهُم}؟ المسلمون المؤمنون حقا والمحافظون على كل ما أمر الله به ورسوله، أم هم أمثالنا من المسلمين في آخر الزمان، من المقصود في هذا الخطاب؟ هم طبعا النوع الأول من المؤمنين".
وهذا الشرط الذي اشترطه الشيخ غير صحيح، لأن التكاليف الشرعية لا تسقط إذا لم يصل المخاطب بها إلى درجة الإيمان الحق، فما ثبت عن السلف أن واحدا منهم اعترض عن أداء الصلاة أو الزكاة أو الحج أو الصوم بدعوى أنه ليس مؤمنا حقا أو أنه لم يحافظ على كل ما أمر الله به ورسوله، وبخاصة إذا كان هذا التكليف هو الجهاد في سبيل الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم لما خرج معه إلى حنين ألفان من مسلمة الفتح بعد شهر واحد من إسلامهم، ما اعترض على خروجهم لكونهم لم يصلوا إلى درجة الإيمان الحق، بل كانوا حدثاء عهد بكفر، كما وصفهم أبو واقد الليثي رضي الله عنه في الحديث الذي سبق ذكره، وفيه: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، ويقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط ...".
ومثله حديث البراء رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري، وقد سبق ذكره وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل المقنع بالحديد: "قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عملا قليلا وأجرا كثيرا".
كما أن شرط الشيخ هذا فيه دلالة على انقطاع الجهاد، وهو مخالف لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الطائفة المنصورة التي لا تزال تقاتل على الحق ظاهرة إلى يوم القيامة، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
"ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم، إلى يوم القيامة" أخرجه مسلم (1037) من حديث معاوية.
وأخرجه من حديثه أيضا أبو داود (2484)، والحاكم 2/ 71 و 4/ 450، وصححه: "لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال".
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" أخرجه مسلم (1922) من حديث جابر بن سمرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يبرح)، (ولن يزال) فهذه أفعال تفيد الاستمرار على القتال.
ففي الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم وأحمد وابن حبان وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة"، قال النووي في "شرح مسلم" 13/ 67:
"وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة، فإن هذا الوصف ما زال بحمد الله تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث".
وقال الخطابي في "معالم السنن" 2/ 236:
"فيه بيان أن الجهاد لا ينقطع أبدا".
فكيف يقول الألباني - "فتاواه" (ص 258) -: "لمن الخطاب {وَأَعِدُّوا لَهُم}؟ ... أعدوا معشر المسلمين ... معشر المؤمنين حقا، هل نحن كذلك؟".
وتأمل في قوله معلقا على قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} قال كما في شريط (720):
"أين هذا الإعداد؟ ومن الذي يستطيع أن يقوم بهذا الإعداد، الأفراد؟ لا، الحكومات؟ نعم، الحكومات".
فكيف يقول بأن الخطاب في {وَأَعِدُّوا لَهُم} موجه للمؤمنين بالله حقا؟ ثم يقول بأن الإعداد تقوم به الحكومات؟ فهل هذه الحكومات تضم المؤمنين بالله حقا، والشيخ وصفها في نفس الشريط (720) قائلا:
"الحكومات لا تحكم بما أنزل الله".
أم هو التناقض والاضطراب الذي يصل إلى الأتباع دون حسيب ولا رقيب.
فكيف ينتظر الشيخ من حكومات عطلت الجهاد وحاربته أن تقوم بإعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى؟!
وإن الشيخ الألباني يحذر من الجهاد؟!
بل كيف ننتظر من الألباني أن يدعو الناس للجهاد وهو يحذر منه، فإنه يقول في شريط (353) : "فأنا أقول كما قلت آنفا لا أرى الجهاد بل أحذّر من الجهاد لأنّ الوسائل النّفسيّة والماديّة لا تساعد المسلمين على القيام بأيّ جهاد في أيّ مكان".
وهذا والله من الدواهي، ولقد كنت أتمنى أن يكون كلام الشيخ هذا سبق لسان قد تاب منه، وحرض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، بدل أن يحذر منه، والله تعالى يقول: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا . وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ...}، ويقول: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}، ويقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}، ويقول تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ}.
ألا خابت هذه "السلفية" إذا كانت جدالا عن الطواغيت المرتدين وتحذيرا للأمة من الجهاد في سبيل الله تعالى!! وتبا لهذه التصفية والتربية إذا كانت ستوصلنا إلى أعتاب الطواغيت راكعين ساجدين!!، يقول شيخ الإسلام في "منهاج السنة النبوية" 2/ 518:
"إن الطائفة إنما تتميز باسم رجالها أو نعت أحوالها".
ولذلك قال عمر بن عبد العزيز، فيما ورد عنه في "الموطأ" وهو صحيح: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل".
وهناك شبهة ترتبت على كلام مشايخ الإرجاء المعاصرين، ويقول أصحابها: كيف نعلن الجهاد في غياب الحكومة المسلمة؟!
والصواب ما قاله ابن قدامة رحمه الله في "المغني" 10/ 368:
"فإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحة تفوت بتأخيره، وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع، قال القاضي: ويؤخر قسمة الإماء حتى يظهر إمام احتياطا للفروج، فإن بعث الإمام جيشا وأمر عليهم أميرا فقتل أو مات، فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة، لما قتل أمراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، أمّروا عليهم خالدَ بن الوليد، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم، وسمى خالدا سيف الله".
وقال أبو المعالي الجويني في "غياث الأمم" (ص 387):
"وإذا لم يصادف الناس قواما بأمورهم يلوذون به، فيستحيل أن يؤمروا بالقعود عما يقتدرون عليه من دفع الفساد، فإنهم لو تقاعدوا عن الممكن عم الفساد البلاد والعباد...".
 وإذا خلا الزمان من إمام، فإن الإمارة تكون شرعية على الطائفة المقاتلة، وذلك لاستمرار قتالها إلى يوم القيامة، ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" قال: فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة" أخرجه مسلم.
وفي هذا رد على من احتج بقول الطحاوي رحمه الله: "والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين...".
 وقد نبه شارح العقيدة الطحاوية على حقيقة ما ذهب إليه الطحاوي رحمه الله، قال ابن أبي العز الحنفي (ص 437):
"يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الرافضة حيث، قالوا: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد، وينادي مناد من السماء: اتبعوه. وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدل عليه بدليل".
وقد شهد تاريخ الإسلام فترات عدم فيها الخليفة، ومثال ذلك السنوات الثلاث التي بدأت بقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله سنة 656هـ في بغداد على يد (هولاكو) التتري إلى سنة 659 كما ذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" 13/ 231، وفي هذه السنوات خاض المسلمون معركة (عين جالوت) سنة 658هـ على يد سيف الدين قطز، والتي هزم فيها التتار، وقد بايع العلماء الأمير قطز على السمع والطاعة وكان منهم العز بن عبد السلام رحمه الله، ولم يعترض على ذلك واحد من العلماء بدعوى انعدام خليفة المسلمين بل إن من العلماء من اعتبر ذلك منة ونعمة من الله على المسلمين كابن تيمية وابن كثير رحمهم الله.
وفي الأخير نوصي الشيخ بما أوصى به حذيفة رضي الله عنه أبا مسعود، فيما ورد عن خالد بن سعد مولى أبي مسعود قال:
"دخل أبو مسعود على حذيفة وهو مريض فأسنده إليه، فقال أبو مسعود: أوصنا، فقال حذيفة: إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر وتنكر ما كنت تعرف وإياك والتلون في الدين" صحيح: رواه أبو نعيم بن حماد وابن أبي شيبة وابن بطة والحاكم وأبو عمرو الداني.
فلم تمحل أراجيف الاستدلال؟ إني أعظك يا شيخ أن تكون من الجاهلين.
قال يزيد بن حبيب وهو يتحدث عن فتنة العالِم:
"...ومنهم من يروي كل ما سمع حتى أن يروي كلام اليهود والنصارى إرادة أن يعزز كلامه" ابن مبارك "الزهد" (40)، والخطابي "العزلة" (214).
يقول صاحب "العمدة" (288):
"ومن كان من العلماء يصد المسلمين عن الجهاد بهذه الشبهات ممالأة ونصرة للحاكم الكافر فهذا العالم لا شك في كفره، وهو مرتد خارج عن ملة الإسلام، وحكمه حكم سيده الحاكم، قال تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}".
أما من شك في كفر من جادلت عنهم فقد قال في حقه الإمام الشنقيطي رحمه الله في "أضواء البيان" 4/ 84:
"...أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم".
وبما أنّ فريضة الجهاد هي أكثر الفرائض التي اشترط لها بعض علماء العصر شروطا شبه تعجيزية وتوسّعوا بخصوصها في مفهوم القدرة فإننا سنقتصر في حديثنا على شرط القدرة بمفهومها الصحيح على هذه الفريضة.
فالبعض يشترط تكافؤ العدد والعدّة، وبعضهم يشترط توحّد الأمّة، والبعض الآخر يشترطون قاعدة واسعة وشريحة كبيرة من الكوادر، وفريق رابع يشترط شروطا قد تكون مستحيلة.
وسنحاول في هذه العجالة أن نناقش ما اشترطوه في القدرة السابق ذكرها نقطة نقطة.
فشرط تكافؤ العدد والعدّة يدحضه قول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} يقول شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 284:
"مدار الشريعة على قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} المفسّر لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وعلى قول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم فاتوا منه ما استطعتم" أخرجاه في الصحيحين".
جاء في "الدرر السنية" 8/ 7:
"فإذا قام المسلمون بما أمرهم الله به من جهاد عدوهم، بحسب استطاعتهم، فليتوكلوا على الله، ولا ينظروا إلى قوتهم وأسبابهم، ولا يركنوا إليها، فإن ذلك من الشرك الخفي، ومن أسباب إدالة العدو على المسلمين ووهنهم عن لقاء العدو، لأن الله تبارك وتعالى أمر بفعل السبب، وأن لا يتوكل إلا على الله وحده".
 وفي "الدرر السنية" أيضا 8/ 21:
"فلا تغتروا بأهل الكفر وما أعطوه من القوة والعدة، فإنكم لا تقاتلون إلا بأعمالكم، فإن أصلحتموها وصلحت، وعلم الله منكم الصدق في معاملته، وإخلاص النية له، أعانكم عليهم، وأذلهم، فإنهم عبيده ونواصيهم بيده، وهو الفعال لما يريد".
يقول سيد قطب رحمه الله في "ظِلال القرآن" 1/ 263:
"إنّ ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين إنما هو في يد الله وحده، فطلبت منه النصر، ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه".
قلت: بل إنّ التعلّق بهذه الأسباب وإن كثرت وقويت واشتراط كذا وكذا قد تكون سببا من أسباب الهزيمة، والذي قرأ التاريخ يدرك أنّه لم يتفوّق المسلمون على الكافرين والمنافقين في جُلّ المعارك التي خاضوها مع قوى الشر والطغيان في القوى المادية، عتادا كانت أم رجالا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ}، بل عندما اغترّ المؤمنون بكثرتهم هُزمُوا: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئا}.
أما شرط توحّد الأمّة فقد جاءت النصوص تبيّن أنّ الاختلاف وهو نقيض التوحّد باق في الأمّة إلى يوم الدين ومنها على سبيل المثال قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}.
وثبت في "الصحيحين": "أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم سأل ربّه أن لا يهلك أمّته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلّط عليهم عدوّا من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يعط ذلك".
وحديث "وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة" – حديث صحيح وانظر "أحاديث الغربة وآثارها" الحديث الثاني -.
وممّا جاء أيضا: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله" - حديث صحيح وانظر "أحاديث الغربة وآثارها" الحديث الثالث -.
فدلّ على أنّ الاختلاف في الأمّة باق لا محالة وأنّ من مقاصد الجهاد إحداث هذا الاختلاف لتمحيص الصفّ وتنقيته خصوصا في زماننا بعد أن كثر الخبث والأدعياء، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}.
واقرؤوا التاريخ: هل توحّدت الأمّة منذ أن قتل عثمان رضي الله عنه؟ فإذا كان خلفاء المسلمين وأئمّتهم لم يستطيعوا توحيد الأمّة فكيف بغيرهم؟
بل إنّ الأمّة ازدادت تشتّتا في أحلك ظروفها وبالضبط حين غزا التتار بلاد المسلمين حتّى قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 416:
"فهذه الفتنة قد تفرق الناس فيها ثلاث فرق:
الطائفة المنصورة: وهم المجاهدون لهؤلاء القوم المفسدين.
والطائفة المخالفة: وهم هؤلاء القوم ومن تحيز إليهم من خبالة المنتسبين إلى الإسلام.
والطائفة المخذلة: وهم القاعدون عن جهادهم، وإن كانوا صحيحي الإسلام.
فلينظر الرجل أيكون من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة؟ فما بقي قسم رابع".
أمّا شرط "الكوادر" كقول قائلهم كم عندنا من الأطباء والمهندسين و و و فهو شرط غريب لم يقل به أحد من السلف، والحقّ هو قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"ألا إنّ القوّة الرمي" أخرجه مسلم (1917).
وقال الصحابي الجليل وهو يخوض معركته:
ركضًا إلى الله بغير زادِ إلا التّقى وعمل المعاد.
إن شرط القدرة بمفهومها الشرعي الصحيح هو مجرد التمكّن وإطاقة الفعل والدليل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" متفق عليه.
من غير أن يدخل فيه تغليب الظن أو التيقّن من تحصيل المقصود، ذلك أنّ النتائج بيد الله والأسباب والمقدّمات ليست هي التي تنشئ الآثار والنتائج، وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدّمات سواء، والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنّه مأمور بالأخذ بها والله هو الذي يقدّر آثارها ونتائجها.
إن قول من يقول: لا نقاتل حتّى نحقق القدرة ولا تتحقق القدرة إلاّ عند التيقّن من تحصيل المقصود فهو قول مردود شرعا وعقلا إذ {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} والنتائج بيده وحده {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}، ومن المفكّرين اليوم من يوسّع معنى القدرة حتّى يشترط تيقّن حصول المقصود مضافا إليه تيقّن عدم حصول مفسدة أعظم، وليت شعري أيّ الأمرين أعظم مفسدة؟ الشرك والكفر المنتشر في البلاد أم الجهاد؟ قال السلف: لا مصلحة تعلو وتوازي مصلحة التوحيد، ولا مفسدة تعلو وتوازي مفسدة الشرك والكفر، فكل الفتن تصغر وتهون أمام فتنة الشرك، وكل فتنة تُحتمل في سبيل إزالة الفتنة الأكبر: ألا وهي فتنة الشرك والكفر.
فالقتال وإن كانت تترتب عليه بعض المشاق والآلام والفتن إلا أنها كلها تهون في سبيل إزالة فتنة الكفر والشرك.
وممّا اتّفق عليه أهل الملّة أنّ النفوس محترمة محفوظة ومطلوبة للإحياء، بحيث إذا دار الأمر بين إحيائها وإتلاف المال عليها، أو إتلافها وإحياء المال كان إحياؤها أولى فإن عارض إحياؤها إماتة الدين، كان إحياء الدين أولى، وإن أدى إلى إماتتها.
وأختم بهذا السؤال التالي:
من الذي يحدّد هذه القدرة ويقدّر عددها وعدّتها؟
الجواب: أهل الخبرة والعلم بشأن الحرب وفنون القتال والسياسة من أهل البلد.
قال شيخ الإسلام:
"الواجب أن يُعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين؛ فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا" "الاختيارات الفقهية" (ص 311).
ولصديق حسن خان في "الروضة الندية" 2/ 362، وقبله الشوكاني في "السيل الجرار" 4/ 512:
"فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب".
 فمعرفة الواقع شرط لازم بدونه لا تصحّ الفتوى، فالفتوى في أي مسألة خصوصا ما يتعلّق بالجهاد يشترط لها شرطان:
الدراية التامة بواقع المسألة على وجه الدقة والتفصيل، ومن ثمّ الدراية بالنصوص الشرعية ذات العلاقة بواقع المسألة، وأيّما فتوى لا تراعي هذين الشرطين فهي فتوى باطلة ومردودة على صاحبها.
إنه يلزم المفتي أن يكون عالما بالواقع مدركا له وإلا كان الخطأ لصيق فتياه.
قال ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" 1/ 69:
"ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر".
قلت: فإذا كان العلم بالواقع شرط لصحة الفتوى في أيّ مسألة من المسائل فهي في أمور الجهاد أولى.
ختامًا أقول: إن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون، ولا حلّ لنا ولا نصرا ولا طمأنينة إلاّ بتحقيق الإيمان الصحيح في قلوبنا، والزهد في الدنيا، والتجرّد التام للحقّ والاطمئنان إلى قدره، ثمّ المضي قدما لحمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع.
قول البعض إن توصيف هؤلاء المرتدين الحاكمين لبلاد المسلمين بأنهم كالعدو الكافر إذا حل ببلد المسلمين غير صحيح، لأن هذا في العدو الأجنبي عن بلد الإسلام أما هؤلاء الحكام فمن أهل البلد نفسه، فهناك فرق؟! وهذا الكلام قيل لإبطال الاحتجاج بفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية - في قتال التتار الممتنعين عن الشريعة مع ادعائهم الإسلام - قيل لا يحتج بهذه الفتوى لأن التتار أجانب عن بلاد الإسلام.

وفي الجواب عن هذا نقول: مسألة الحاكم المرتد فيها نص مستقل وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "وألا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"...هذا الحديث مقيد لجميع الأحاديث الواردة بالصبر على أئمة الجور، كأحاديث ابن عباس "من رأى من السلطان شيئا يكرهه فليصبر" وحديث عوف بن مالك "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" ونحوها، ولهذا فقد أورد البخاري حديث عبادة عقب أحاديث ابن عباس في الباب الثاني من كتاب الفتن من صحيحه إشارة منه إلى هذا القيد، وهذا يكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد في وجوب الخروج على هؤلاء الحكام.
أما هذه الأوجه الثلاثة وغيرها فنحن نذكرها لا لبيان شرعية الخروج عليهم - فهذا ثابت بحديث عبادة - ولكن لبيان فوائد أخر كتوكيد هذا الخروج وتقديمه على غيره من أنواع الجهاد، وفي رد هذه الشبهة نقول: لم نسمع بأن الشريعة وردت بالتفريق بين الكافر الأجنبي والكافر الوطني فيما يترتب على الكفر من أحكام، قال تعالى:
{يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، وقال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا}، الغرض من هذه الآيات بيان أن العداوة بين المؤمن والكافر متعلقة بوصف الكفر، هذا هو مناط الحكم لا بوصف آخر ككون الكافر أجنبيا أو وطنيا، لأن العداوة واجبة وإن كان الكافر هو ابنك أو قومك وعشيرتك، فمناط الحكم هو صفة الكفر لا غير، وما قيل في العداوة يقال في العقوبة، فعقوبة الكافر متعلقة بكفره، أي: بقيام صفة الكفر به لا بسبب وصف آخر، وهذا هو مناط الحكم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بَدَّل دينه فاقتلوه" متفق عليه، فجعل عِلَّة القتل هي تبديل الدين، أي: الكفر بعد الإسلام، هذا هو مناط الحكم، إذا تبين هذا فنقول إن وصف الكفر الذي تترتب عليه العقوبة (قتل المقدور عليه وقتال الممتنع) هذا الوصف قائم بالكافر الأجنبي والوطني على السواء، وإذا تسلط هذا على المسلمين ببلد ما فلا فرق بين كونه قادما من خارج البلدة، وبين كونه من أهلها بحكمها فَكَفَر، أو كَفَر وتسلط عليها، فمناط الحكم قائم في كل هذه الأحوال، ومن كان من أهل البلدة فكفر خرج بكفره عن كونه من أهلها المسلمين وصار أجنبيا عنهم، لقوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}، فخرج بكفره عن كونه من أهله وصار أجنبيا عنه، على أن هناك أوصافا ثانوية تؤثر في العقوبة، ومن هذا التفريق بين الكافر الأصلي والمرتد، فالمرتد عقوبته أغلظ ... وكذلك التفريق بين الكافر المحارب والمسالم عند الثلاثة خلافا للشافعي، وكذلك التفريق بين الأقرب والأبعد في أولوية الجهاد...ومن هنا ترى أن هؤلاء الحكام المرتدين قد قامت بهم جميع الأوصاف المغلظة، كالردة والمحاربة والقرب، على النقيض مما يقابلها من الأوصاف المخففة وهي الكفر الأصلي والمسالمة والبعد، ومثل ما سبق: أن كل مسكر حرام، سواء كان اسمه خمرا أو كحولا أو نبيذا، وسواء كان مَحَلِّيا أو مستوردا، وسواء كان لونه أبيض أو أحمر، كل هذه ليست هي الأوصاف المؤثرة في الحكم، وإنما الوصف المؤثر وهو العِلّة ومناط الحكم هو الإسكار، طالما وجد هذا الوصف - دون اعتبار لبقية الأوصاف - وجد الحكم وما يترتب عليه، وهنا أيضا قد يوجد وصف ثانوي يؤثر في العقوبة، كمن شرب الخمر في نهار رمضان، فيقام عليه الحد ويعزر لحرمة الشهر، ولولا الوصف الأصلي (الإسكار) لما وجبت
عليه عقوبة أصلا، فالذي يقول بالتفريق بين الكافر الأجنبي والكافر الوطني في الأحكام هو كالذي يقول بالتفريق بين الخمر المستورد والخمر المحلي، فتأمل هذا.
ولا يشترط لوجوب قتالهم تَمَيّز المسلمين المجاهدين في دار منفصلة عن دار الحاكم المرتد وطائفته كما يَدَّعيه البعض، ويكفيك في إبطال هذا الشرط ما نقلته عن ابن تيمية آنفا من الإجماع على وجوب قتال العدو إذا حل ببلد المسلمين، فأين الدار المستقلة هنا؟ بل إن هذا هو أحد مواضع تَعَيَّن الجهاد...ولم يرد دليل شرعي بهذا الشرط وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولم يشر أحد من أهل العلم إليه، غاية ما ذكره ابن قدامة في هذا أنه إذا اقترب العدو من بلد جاز لأهله الرجوع إلى حصن يَتَحَصَّنون به.
أما أمر الحاكم الكافر المرتد ففيه نص واضح جليّ، وهو حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "وَأَلا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ قَالَ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ" متفق عليه.
ولم يشترط صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث - ولا في غيره - تَمَيُّزًا ولا مفاصلة، ولا نبّه أحد من أهل العلم على هذا كالقاضي عياض وابن حجر
في شرح هذا الحديث، فإن قال الذي اشترط هذا الشرط (تَمَيُّز الدارين) إنه يجب عقلا لا شرعا، فنقول له العقل لا يوجب شيئا كما ذكرنا في أصول الاعتصام بالكتاب والسنة، وإن قال إنه أمر اجتهادي، فنقول له إذا وصلنا إلى الاجتهاد فالأمر متروك لأهل الخبرة الحربية لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، أما من الناحية الشرعية فنحن نقول إنه لا يشترط لوجوب الخروج على الحاكم إلا القدرة من عدد وعدة، وهذه أيضا يحدد القدر المطلوب منها أهل الخبرة الحربية، ومن غَرّر بنفسه وخرج للجهاد بمفرده جاز له ذلك وهو مأجور إن شاء الله تعالى، إلا إذا كان يتبع طائفة مجاهدة فلا يخرج إلا بإذن الأمير أما دليل جواز خروجه منفردا فهو قول الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ}، وقال ابن حزم في "المحلى" 7/ 299:
"ويُغْزى أهل الكفر مع كل فاسق من الأمراء وغير فاسق ومع المتغلِّب والمحارب كما يُغْزَى مع الإمام ويغزوهم المرء وحده إن قدر أيضا".
قلت: وجهاد هؤلاء الطواغيت فرض عين فللمرء أن يفعله وحده إن أراد، خاصة إذا أمكنته الفرصة من أحد هؤلاء، ولا يجب عليه التصدي لجمع عظيم من الكافرين بل يجوز له الفرار للتفاوت العددي، فإن ثبت وكان له غرض في الشهادة جاز له ذلك وهو حسن، قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، أما الواجب فهو قتالهم في جماعة، إذ المطلوب إظهار الدين {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، وهذا لا يتأتى بالقتال منفردًا، ومن كان يتبع جماعة مجاهدة فلا يقاتل إلا بإذن أميره، قال تعالى:
{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ}...وقد خرج جماعة من المسلمين على الحكام المرتدين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، دون تَمَيُّز في الديار أو مفاصلة، فلما خرج الأسود العنسي المتنبي الكذاب وغلب على اليمن واستولى عليها احتال عليه فَيْروز الديلمي - وكان من أنصاره في الظاهر - حتى قتله، وذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - "البداية والنهاية" لابن كثير 6/ 307  -.
ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، وما قال أحد كيف يقتل فيروز هذا الأسود قبل أن ينحاز إلى أرض مستقلة؟ كذلك خرج يزيد بن الوليد وطائفة معه على الخليفة الوليد بن يزيد لما اتُّهِم بالانحلال في الدين حتى قتلوه، دون تَمَيُّز في الديار - "البداية والنهاية"10/ 6 -.
ونقتصر على هذين المثلين اختصارا، وأصحاب هذه الشبهة يستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَشْرَع في القتال إلا بعد الهجرة، حيث أصبح للمسلمين دار مستقلة بالمدينة تميزوا فيها عن عدوهم، وهذا القول ليس بحجة إذ ليس فيه حصر، بمعنى أنه لم يرد نص شرعي يمنع القتال إلا في مثل هذه الحالة، وهذا واضح، ثم إن هذا الزمان كان زمان تشريع أما الآن ومنذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد اكتملت الشريعة وأحكامها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وقد انعقد الإجماع على أنه إذا نزل العدو الكافر ببلد تَعَيَّن على أهله قتالهم - أي صار دفع الكافرين فرض عين على المسلمين بهذه البلدة - فهاهم المسلمون وعدوهم في دار واحدة، وقد فقد المسلمون استقلالية دارهم بالغزو، ومع ذلك يجب عليهم القتال عَيْنًا إجماعًا كما في "الاختيارات الفقهية" لابن تيمية (ص 309).
إن الخروج على الحاكم المرتد هو أمر منوط بالقدرة، ويختلف من بلد إلى بلد، ويتكلم فيه أهل الخبرة من الناحية التنفيذية، وإذا علم الله سبحانه حسن النية من طائفة مجاهدة فسيهديهم وييسر لهم ما فيه مرضاته، قال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}.
أما القاعدون عن هذا الجهاد المتعين فلم يكتفوا بالقعود بل هم يثبطون غيرهم ويخذلونهم بهذه الشبهات التي هي عقوبة قدرية لهم على قعودهم وتخلفهم، كما قال تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}، فلما تخلفوا طَبَع الله على قلوبهم بعدم الفقه فأخذوا يُنَقِّبون عن الشبهات ليبرروا تخلفهم وليثبطوا غيرهم فيحملوا أوزارهم مع أوزارهم، وهكذا سيئة تولِّد سيئة، قال تعالى: {إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}.
إن هذا القول باشتراط تَمَيُّز الدارين لوجوب الجهاد هو قول فاسد، وهو يفضي إلى تعطيل الجهاد خاصة جهاد الدفع.
قلت: كذلك فإن هذا القول باشتراط تميز الدارين معناه الاستسلام للأمر الواقع والسكوت عن هؤلاء الطواغيت الحاكمين لبلاد المسلمين، ومعناه إسقاط فريضة الجهاد المتعين على أعيان المسلمين بهذه البلاد، وهذا القول يفضي إلى استئصال الإسلام بالكلية من هذه البلاد في زمن يسير، نعوذ بالله من ذلك - ولكنه غير مستبعد - فكم من بلاد قامت بها ممالك إسلامية عظيمة ثم هي اليوم ديار كُفْر، صار فيها الإسلام أثرا بعد عين، كالأندلس والتركستان وبخارى وسمرقند والبلقان وغيرها، وكم من بلاد أَسْقَط فيها أشياع هؤلاء المخذلين الجهاد بشبهاتهم الشيطانية، كما حدث في الهند وكانت مملكة إسلامية فاحتلها الإنجليز، وأسقط علماء السوء الجهاد بحجة أن الإنجليز هم أولوا الأمر الواجب طاعتهم لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهذا مثال لما رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مما يهدم الدين: (جدال المنافق بالقرآن)، ومن كان من العلماء يصد المسلمين عن الجهاد بهذه الشبهات ممالأة ونصرة للحاكم الكافر فهذا العالِم لا شك في كُفْره، هو مرتد خارج من ملة الإسلام، وحكمه حُكْم سيده الحاكم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}.
ويشترط آخرون تميز الطائفة الكافرة عمن يخالطها من المسلمين، وهذا واقع فالطائفة المناصرة للحاكم الكافر عادة ما تكون متميزة بلباس معين ولها معسكرات محددة وأماكن معلومة، وهذا لا يخفى على أحد، وأما إذا خالطهم مسلمون، فإما أن يكونوا ليسوا من الطائفة الكافرة أصلا وخالطوهم حال القتال، وإما أن يكونوا من الطائفة ولهم حكم الإسلام في الباطن (كالمكره ومن يكتم إيمانه ليتجسس عليهم)، وهؤلاء جميعا لا يخلو حالهم من أحد أمرين:
الأول: أن يكونوا غير متميزين عن أهل الكفر في الظاهر، فهذا لا يمنع من قتالهم على كل حال كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قال:
"ومن أخرجوه معهم مكرها فإنه يبعث على نيته ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه، إذ لا يتميز المُكْرَه من غيره، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يَغْزُو هذا البيتَ جيشٌ من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذا خُسِفَ بهم. فقيل يا رسول الله: إن فيهم المُكْرَه، فقال: يُبعثون على نياتهم) - إلى أن قال - وفي لفظ البخاري عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ) - إلى أن قال - فالله تعالى أَهلَكَ الجيش الذي أراد أن ينتهك حرماته - المكره فيهم وغير المكره - مع قدرته على التميِيزِ بينهم - مع أنه يبعثهم على نياتهم، فكيف يجب على المؤمنين المجاهدين أن يميزوا بين الْمُكْرَه وغيره وهم لا يعلمون ذلك؟! بل لو ادعى مُدَّع إنه خرج مُكرها لم ينفعه ذلك بمجرد دعواه، كما روى: إن العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسَرَه المسلمون يوم بدر: يا رسول الله! إني كنت مكرها. فقال: (أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله)".
وقال رحمه الله في موضع آخر:
"ونحن لا نعلم المُكْرَه، ولا نقدر على التمييز، فإذا قتلناهم بأمر الله كنا في ذلك مأجورين ومعذورين، وكانوا هم على نياتهم، فمن كان مكرها لا يستطيع الامتناع فإنه يُحشر على نيته يوم القيامة، فإذا قتل لأجل قيام الدين لم يكن ذلك بأعظم من قَتْلِ من يُقْتَل من عسكر المسلمين".
قلت: وقد فصلت في الرسالة الأخرى شروط الإكراه المعتبرة شرعا لموافقة الكفار على ما يريدون، وأن هذه الشروط لا تتوفر في الغالبية العظمى من أعوان هؤلاء الحكام، وذكرت أيضا أن الإكراه لا يكون عذرا مبيحا لقتل المسلم بإجماع العلماء بلا مخالف. فكيف بمن يتتبع المسلمين ويقتلهم لنصرة الكافر؟
الحال الثاني: أن يكون المسلمون في صف العدو متميزين ظاهرا، معلومين لجند الإسلام فهذه هي مسألة التترس، قال ابن تيمية رحمه الله:
"بل لو كان فيهم قوم صالحون من خيار الناس ولم يمكن قتالهم إلا بقتل هؤلاء لقتلوا أيضا، فإن الأئمة متفقون على أن الكفار لو تترسوا بمسلمين وخيف على مسلمين إذا لم يقاتلوا: فإنه يجوز أن نرميهم ونقصد الكفار، ولو لم نخف على المسلمين جاز رمي أولئك المسلمين أيضا في أحد قولي العلماء، ومن قتل لأجل الجهاد الذي أمر الله به ورسوله - وهو في الباطن مظلوم - كان شهيدا، وبُعِث على نيته، ولم يكن قَتْلُه أعظم فسادا من قَتْلِ من يُقْتَل من المؤمنين المجاهدين، وإذا كان الجهاد واجبا وإن قُتِلَ من المسلمين ما شاء الله، فَقَتْلُ من يُقْتَل في صفهم من المسلمين لحاجة الجهاد ليس أعظم من هذا، بل قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المُكْرَه في قتال الفتنة بكسر سيفه، وليس له أن يُقَاتِل وإن قُتِل".
والذين يقولون بشرط تَمَيُّز الطائفة الكافرة عن المسلمين لهم شبهة، حيث يستدلون بقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، ومعناها: أي: ولولا أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بمكة من المستضعفين، لا تعلمونهم أيها المسلمون، وإذا قاتلتم أهل مكة يوم الحديبية لكان من الممكن أن تقتلوا بعض هؤلاء المؤمنين وتصيبكم من هذا معرة (أي: عيب وإثم)، {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: تَمَيَّز وانفصل المؤمنون عن الكفار لعذب الله الكفار بالقتل وغيره.
فاستدل البعض بهذه الآية على أن مخالطة المؤمنين للكافرين مانعة من قتال الكافرين وعُذْر في ترك قتال الكافرين، لما ينتج عنه من قتل بعض المؤمنين المخالطين، وكما لا يخفى، فهذا القول يفضي إلى تعطيل الجهاد بنوعيه (قتال الطلب وقتال الدفع) فما من بلد الآن إلا به مسلمون مخالطون للكفار بنسب مختلفة، يوجد مسلمون بالصين والهند وروسيا وأمريكا وغيرها وكلها ديار كُفْر، أفيمنع هذا من جهادهم عند الاستطاعة؟
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
الأول: أن المنع من القتال يوم الحديبية كان منعا قدريا، ولا يجوز الاحتجاج بالقدر وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قَصَد مكة معتمرا، فعزم أهل مكة على مَنْعِه من دخولها، فَعَزَم على قِتَالهم إن هم منعوه بعد مشاورة مع الصحابة، كما رواه البخاري: "قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ قَالَ امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا العزم إلى أن توقفت ناقته عن المسير، فقال بعض الصحابة: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطَّة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، أي: منعها عن المسير إلى مكة الذي حبس الفيل وأبرهة عن مكة سبحانه وتعالى، فهذا منع قدري، فعَلِم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لم يأذن في هذا، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قَبول الصلح، وشَرع فيه، ثم بلغه مقتل سفيره إلى أهل مكة وهو عثمان رضي الله عنه، فعندها عزم على القتال مرة أخرى وأخذ البيعة من أصحابه وهي بيعة الرضوان على ألا يفروا أو على الموت، ثم أُطْلِق عثمان وشاء الله تعالى أن يمضي الصلح، كل هذا والآية المُسْتَدل بها بل والسورة كلها (سورة الفتح) لم تكن قد نزلت بعد، وإنما نزلت عند الإنصراف من الحديبية، وكما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على القتال مرتين، الأولى عندما مَضَى فحُبِسَت ناقته والثانية عندما أَخَذَ البيعة، ومع عزمه على القتال في المرتين كان صلى الله عليه وسلم يعلم بوجود مؤمنين مستضعفين في مكة وكان يعلم بعضهم عَيْنًا وكان يدعو لهم بالنجاة، فلم يمنعه وجود المستضعفين من العزم على القتال، بل القتال واجب لاستنقادهم، لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ...}، ولكن الله لم يأذن في القتال قدرا لا شرعا، إذ لو مُنِع شرعا (بالوحي) لما مَضَى ولما أخذ البيعة، وهذا المنع القدري لحكمة يعلمها الله تعالى منها وجود المستضعفين بمكة ومنها أن الصلح ترتب عليه نفع عظيم إذ أَمِن الناس فدخل في الإسلام أضعاف من دخله قبل، كما في الآية: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، حتى سمى الله تعالى هذا الصلح فتحا كل هذا في بيان أن منع القتال يوم الحديبية كان منعا قدريا.
وفي إبطال الاحتجاج بالقدر قال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" 2/ 323-326: 
"وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر، بل القدر يُؤْمن به ولا يُحْتَج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين، متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرا، لزم أن لا يُلام أحد، ولا يعاقب ولا يُقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه - إذا ظُلِم في نفسه وماله وعرضه وحرمته - أن لا ينتصر من الظالم، ولا يغضب عليه، ويذمّه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة، لا يمكن أحدا أن يفعله، فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.
ولو كان القدر حجة وعذرا: لم يكن إبليس ملوما ولا معاقبا، ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار، ولا كان جهاد الكفار جائزا، ولا إقامة الحدود جائزا، ولا قطع السارق، ولا جلد الزاني ولا رجمه، ولا قتل القاتل ولا عقوبة مُعْتَدٍ بوجه من الوجه - إلى أن قال رحمه الله - فمن احتج بالقدر على ترك المأمور، وجزع من حصول ما يكرهه من المقدور فقد عكس الإيمان، وصار من حزب الملحدين المنافقين، وهذا حال المحتجين بالقدر".
الوجه الثاني: الخصوصية، وهي أن هذا المنع من القتال لاختلاط المؤمنين بالكفار في مكة كان خاصا بقصة الحديبية دون غيرها، ولا يستدل به على ما شابَهَهَا، وهذا القول بالخصوصية إن شاء الله تعالى هو الصواب، والله تعالى أعلم، ودليل ذلك:
* أن الله سبحانه منع رسوله صلى الله عليه وسلم من غزو مكة يوم الحديبية (سنة 6 ه) منعا قدريا، ثم أَذِنَ له في غزوها بعد ذلك بسنتين يوم فتح مكة (سنة 8 ه) إذنا شرعيا، والبلد هو البلد (مكة)، والمستضعفون لم يزل بعضهم بمكة كابن عباس رضي الله عنهما وغيره.
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: "لما فَتَحَ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حَبَسَ عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن لأحد من بعدي".
وبهذا تعلم أن المنع يوم الحديبية كان خاصا لأن نفس البلد أحل بعد ذلك، والبلد هو البلد، والمستضعفون لم يزل بعضهم بها.
* ومما يدل على الخصوصية أيضا أن هناك مواقف خالط فيها المؤمنون الكافرين والعصاة، ووقع القتل أو العذاب بالجميع، ولم يَحُل دون ذلك منع قدري من الله تعالى كما حدث يوم الحديبية، فدل هذا على خصوصية النص بقصة الحديبية، ولا مانع من أن يحدث مثله قدرا، أما شرعا فليس بحجة، ومن المواقف التي حدثت فيها المخالطة ولم يمنع القتل أو العذاب قدرا ما يلي:
ما رواه أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله، قال:
"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خَثْعَم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى نارهما".
ومنها حديث البيداء المذكور في كلام ابن تيمية السابق، فهذا الجيش أهلكه الله تعالى مع أن فيهم المُكْرَه ومن ليس منهم.
ومنها ما رواه البخاري (7108) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنزَلَ الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم".
ومنها ما رواه البخاري (7059) عن أم المؤمنين زينب بنت جحش قال: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث".
ومنها ما رواه ابن حبان في "صحيحه" عن عائشة مرفوعا: "إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون، قُبِضُوا معهم ثم بُعِثُوا على نياتهم وأعمالهم".
وهذه الأحاديث كلها في معنى حديث البيداء.
قلت: والقول بالخصوصية ليس معناه أن المؤمن المخالط للكافرين لا حرمة له أو أنه مهدر الدم، لا بل هو معصوم بإيمانه أينما كان، وإنما القول بالخصوصية معناه أن هذه المخالطة ليست بمانعة من قتال الكافرين وإن تيقن أن بينهم مسلمين سيقتلون ضمنا، وذلك إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك، وهذا هو ما استقر عليه قول جمهور الفقهاء، ويجب أن يشاع هذا العلم في المسلمين كي يَحْذَروا من مخالطة الكافرين، وفي تفسير قوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} أورد القرطبي أن مالكا رحمه الله لا يرى رمي المشركين إذا علم أن بينهم مسلمين مستدلا بهذه الآية، وقال إن أبا حنيفة أجاز ذلك، ثم قال القرطبي: "قد يجوز قتل التُّرس، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية، فمعنى كونها ضرورية، أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس، ومعنى أنها كلية، أنها قاطعة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قَتَلَ الكفارُ الترسَ واستولوا على كل الأمة ومعنى كونها قطعية، أن تلك المصلحة حاصلة من قَتْل الترس قطعا، قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يُخْتَلَف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين، وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون، ولا يتأتى لعاقل أن يقول: لا يُقتل الترس في هذه الصورة بوجه، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة، نَفَرَت منها نفس من لم يُمْعِن النظر فيها، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما يحصل منها عدم أو كالعدم، والله أعلم".
قلت: وهذا كلام يَشْفي العليل ويَرْوى الغليل، فإنه لا خلاف بين الأمة في وجوب حفظ الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والنسل (النسب) والعقل والمال، ولا خلاف في أن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس، ولهذا شُرِع الجهاد لحفظ الدين مع أن فيه ذَهَاب الأنفس والأموال، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعدًا عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاة وَالإِنْجِيل وَالقُرْآن}، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
ولا شك أن الضرر النازل بالمسلمين من تسلط الحكام المرتدين عليهم، وما في ذلك من الفتنة العظيمة، هذا الضرر يفوق أضعافا مضاعفة قتل بعض المسلمين المكرهين في صف العدو أو المخالطين له عن غير قصد حال القتال، إن كثيرا من بلدان المسلمين تسير في طريق الردة الشاملة من جراء هؤلاء، فأي فتنة أعظم من هذا، هذه فتنة تفوق ما يصيب المسلمين بالجهاد من قتل أو سجن أو تعذيب أو تشريد، قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ}، وقال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}، فيجب دفع المفسدة
العظمى (فتنة الكفر والردة) بتحمل المفسدة الأخف (وهو ما يترتب على الجهاد من قتل وغيره) وهذا هو المقرر في القواعد الفقهية الخاصة بدفع الضرر، كقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقاعدة (يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) وقاعدة (الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف) وقاعدة (إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا) وقاعدة (يُختار أهون الشرين) وغيرها، وقال ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 355:
"وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}، أي: أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه".
ألا ترون إلى ما يجري للمسلمين في كثير من البلدان؟ تستباح دماؤهم وأموالهم بأحكام الكفر، مع إشاعة الفجور والفواحش والتجهيل المعتمد بالدين والاستهزاء بالإسلام وأهله، ليشب النشئ على صلة باهتة بدينه، أي فتنة أعظم من هذا، وماذا بقي للمسلمين؟ قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.


٭ ٭ ٭


_______________________
[1] - نقل الألباني في تعليقه على "الطحاوية" (ص 69) كلاما لشارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي، فغيّر كلمة (التوبة) إلى: (التربية)، فقال عند قول الطحاوي:
(ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا)، قال الألباني:
"قد ذكر الشارح - يعني: ابن أبي العز الحنفي - في ذلك أحاديث كثيرة تراها مخرجة في كتابه ثم قال: وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات فإن الله ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا والجزاء من جنس العمل فعلينا الاجتهاد في الاستغفار و (التربية) وإصلاح العمل...".
وتعليق الألباني فيه مغالطات خطيرة فإنه ينزّل الأحاديث الواردة في حق أئمة المسلمين على هؤلاء الحكام المرتدين، مثل حديث ابن عباس مرفوعا: "من كره من أميره شيئا فليصبر، فإن من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية" متفق عليه.
وحديث عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" رواه مسلم (1855)، وفي رواية "لا ما صلوا".
وكشف هذا التلبيس من وجهين:
الأول: هذه الأحاديث في حق الحاكم المسلم لا الحاكم الكافر، ولا يستدل بها في حق الحكام المرتدين لأن هؤلاء:
أ - غير مستوفين لشروط الإمامة (كالعلم الشرعي والعدالة وغيرها)، وراجع شروط الإمامة بـ "الأحكام السلطانية" للماودري (ص 6).
ب - لم تنعقد لهم بيعة شرعية صحيحة، والبيعة لا تكون شرعية إلا إذا كانت على شرط الحكم بالكتاب والسنة، كما روى البخاري (7272) أن ابن عمر كتب إلى
عبد الملك بن مروان يبايعه: "وأقر لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت"، وقال ابن حجر في "الفتح" 13/ 203:
"والأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
أما هؤلاء المرتدون فيقسمون عند توليهم الحكم على العمل بالدستور والقانون الوضعي والديمقراطية والاشتراكية وغير ذلك من الكفر.
جـ - لا يقومون بواجبات الأئمة وأولها (حفظ الدين على أصوله المستقرة) كما ذكره الماوردي - في "الأحكام السلطانية" (ص 15 و 16) - فيما يلزم الإمام ومنها
إقامة الحدود والجهاد في سبيل الله، فهؤلاء يحفظون الدين أم يضيعونه؟
مما سبق ترى يا أخي المسلم أن هؤلاء الحكام لا يدخلون في مسمى (أئمة المسلمين) لا من حيث الشروط ولا البيعة ولا الواجبات، وترى أن تنزيل أحاديث الأئمة عليهم فيه مغالطة خطيرة وتلبيس.
الوجه الثاني: أنه لو افترضنا - جدلا - تنزيل أحاديث الأئمة عليهم، فإن هذه الأحاديث مقيدة بحديث عبادة بن الصامت "وألا ننازع الأمر أهله، قال صلى الله عليه وسلم:
إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" متفق عليه.
فمتى وقع الحاكم في الكفر الصريح كالحكم بغير ما أنزل الله فقد سقطت طاعته وخرج عن حكم الولاية ووجب الخروج عليه، كما قال القاضي عياض - في شرح حديث عبادة - أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل - إلى قوله - فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك ... الخ) "شرح مسلم" للنووي 12/ 229.
مما سبق ترى يا أخي المسلم أنه لا مجال للاستدلال بالأحاديث الواردة في أئمة المسلمين في حق هؤلاء الطواغيت المرتدين، وترى كذلك خطورة التلبيس الناشئ عن هذا الإستدلال الذي يترتب عليه صرف المسلمين عن جهاد الطواغيت الواجب عليهم.
 وقد وقع الألباني في هذه المغالطة في تعليقه على العقيدة الطحاوية، فكلام الإمام الطحاوي وكلام الشارح ابن أبي العز هو في حق الإمام المسلم إن فسق أو جار، وليس في حق الكافر، وهذا واضح في كلام الإمام الطحاوي: (ولا نرى الخروج على أئمتنا) أي أئمة المسلمين، فأخذ الألباني كلامهما وأنزله في حق حكام المسلمين - في زماننا هذا - الذين لا شك في كفر وردة معظمهم، فأحدث بذلك تلبيسا خطيرا.
 وإذا وقع الحاكم في الكفر فلا ينظر إلى مفسدة الخروج عليه، إذ لا مفسدة أعظم من فتنة الكفر، قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}، وقد أجمع العلماء على أن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس وغيرها من الضرورات الخمس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 28/ 355:
"وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} أي: أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار
 من الشر والفساد ما هو أكبر منه".
وللألباني نحو هذا الشيء أيضا في هذا التعليق (ص 60) في تغيير المعنى، فقال عند قول الطحاوي (ولا نكفِّر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)، قال الألباني:
"إن شارح العقيدة الطحاوية (نقل عن أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، أن الذنب أي ذنب كان هو كفر عملي لا اعتقادي، وأن الكفر عندهم
على مراتب كفر دون كفر كالإيمان عندهم)".
فلا هو ذكر مراد أهل السنة بهذه العبارة (لا نكفر مسلما بذنب...) ولا هو نقل كلام ابن أبي العز فيها نقلا صحيحًا، وبمراجعة "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز، (ص 362-363) طبع المكتب الإسلامي عام 1403 هـ، تعلم أنه أراد بالكفر العملي: الكفر الأصغر غير المخرج من الملة، وحاصل كلام الألباني أن أي ذنب كان لا يكفر فاعله إلا أن يستحله استحلالا قلبيا اعتقاديا - حسبما عَرَّف الاستحلال في المصدر المشار إليه - فإن لم يستحله
كان كفرًا أصغر!!
إنّ حصر الكفر في الجحد والاستحلال هو قول غلاة المرجئة الذين أكفرهم السلف كما قال ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 7/ 205 و 209، وهذا القول أخبث من قول الجهمية الذين قالوا إن من نص الشارع على كفره فهو كافر في أحكام الدنيا ويجوز أن يكون مؤمنا في الباطن.
فحاصل قول الألباني هو قول غلاة المرجئة، إذ إنه يشترط الاستحلال الاعتقادي للتكفير بأي ذنبٍ كان دون تفريق بين الذنوب المكفرة وغير المكفرة.
فانظر مثلاً ماذا يقول في كتابه "التحذير من فتنة التكفير" (ص 9-10) الذي جاء تأصيلاً لعقيدة جهم بن صفوان في الإيمان والوعد والوعيد:
"وخلاصة الكلام: لا بد من معرفة أن الكفر -كالفسق والظلم - ينقسم إِلى قسمين: كفرٌ وفسق وظلم يُخرِج من الملة، وكلُّ ذلك يعود إِلى الاستحلال القلبي، وآخرُ لا يُخرِج من الملة؛ يعود إِلى الاستحلال العمليِّ!!".
مفاد كلامه أن أي كفر مهما كان بواحا ومُستحلاً في الظاهر والعمل ولكن لا ينعقد استحلاله في القلب فهو لا يُخرِج من الملة، وهذا مطابق لعقيدة جهم بن صفوان الذي
يحصر الكفر في التكذيب القلبي وحسب، وله شريط بعنوان: (الكفر كفران) فيه من العجب العجاب، وهو لا يختلف عما أصله في كتابه "التحذير من فتنة التكفير".
وأما قول الطحاوي (ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) فالمراد بالذنوب في هذه العبارة هي الذنوب غير المكفرة كالزنا وشرب الخمر التي يُكَفِّر بها الخوارج، ولم يقل أحدٌ (إن الذنب أي ذنب كان ...) كما قال الألباني، بل قد قال ابن أبي العز بخلاف هذا الذي نسبه إليه الألباني، فقال في "شرح العقيدة الطحاوية" (ص 355-356):
"ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدًا بذنب، بل يقال لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج".
هذا كلام الشارح فتأمل الفرق؟! وقول الشارح إنه قد امتنع كثير من الأئمة عن اطلاق القول بأنا لا نكفر أحدًا بذنب، ومنهم أحمد بن حنبل رحمه الله فيما نقله عنه الخلاّل قال: أنبأنا محمد بن هارون أن إسحاق بن إبراهيم حدّثهم قال: حضرت رجلاً سأل أبا عبد الله فقال: يا أبا عبد الله، إجماع المسلمين على الإيمان بالقدر خيره وشره؟ قال أبو عبد الله: نعم. قال: ولا نكفر أحدًا بذنب؟ فقال أبو عبد الله: اسكت، من ترك الصلاة فقد كفر، ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر" ذكره الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في مقدمة تحقيقه للمسند 1/ 79، وانظر "مسائل ابن هانئ" (1876) و (1877).
وقال سفيان بن عيينة كما في "السنة" لعبد الله بن أحمد 1/ 347:
"المرجئة ...سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم وليس بسواء لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر".
 وقد أجمع عليه أهلُ السُّنة: أنَّ الكفر يكونُ بالقول أو الفعل أو الاعتقاد أو الشك أو الترك.
مثال آخر: قوَّل الحافظ ابن حجر، والغزالي مالم يقولا، انتصارًا لمذهبه في الحكم على تارك الصلاة، فقال كتابه "حكم تارك الصلاة" (ص 60) وكذا في "السلسلة الصحيحة" 7/ 149:
"ويعجبني بهذه المناسبة ما نقله الحافظ في "الفتح" 12 / 300 عن الغزالي أنه قال: (والذي ينبغي الاحتراز منه: التكفير ما وجد إليه سبيلا فإن استباحة دماء المسلمين المقرين بالتوحيد خطأ والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم واحد)".
وهذا تحريف من الشيخ غفر الله له، فنص عبارة الحافظ عن الغزالي هي: "فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطإ في سفك دم لمسلم واحد".
فلو أثبت الألباني كلمة (المصلين) بدلاً من كلمة (المسلمين) كما في الأصل، لما كان لاستشهاده بمقولة الغزالي أي معنى أو دليل، لأنه استدل به لبيان حرمة تاركي الصلاة وخطأ تكفيرهم!
مثال آخر: تحريفه لكلام ابن القيم في كتابه "حكم تارك الصلاة" (ص 37) فقد نسب إليه أنه قال: "الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود واعتقاد".
 ونص عبارة ابن القيم في كتاب "الصلاة وأحكام تاركها" (ص: 56) هي: "الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد".
فبدّل كلمة (عناد) إلى: (اعتقاد)، وهذا منه انتصارًا لمذهبه في حصر الكفر في الجحود والاعتقاد القلبي!
مثال آخر: قال في "الإرواء" 2/ 70-71: "والذي صح عنه - صلى الله عليه وسلم - في موضع وضع اليدين إنما هو الصدر!!!...ثم قال: وأسعد الناس بهذه السنة الصحيحة الإمام إسحاق بن راهويه!!! فقد ذكر المروزي في "المسائل" (ص 222) كان إسحاق يُوتِر بنا ... ويرفع يديه في القنوت، ويقنت قبل الركوع، ويضع يديه على ثدييه أو تحت الثديين".
قلت: في هذا السطر وقع الألباني في خَطَأيْنِ اثنين:
الخطأ الأول: قوله (والذي صح عنه - صلى الله عليه وسلم - في موضع وضع اليدين إنما هو الصدر) وهذا مبناه على ما قاله في "صحيح أبي داود" 3/ 344 - الأم
فقد قال:
"عن وائل بن حجر: أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" من طريق محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن علقمة بن وائل، عن أبيه ... في حديث حكايته لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: وضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره".
قلت: إنما هذه رواية مؤمل بن إسماعيل - وهو سيء الحفظ -، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، أخرجها ابن خزيمة (479)
وهي رواية منكرة، فقد رواه عن سفيان الثوري: الفريابي، وعبد الله بن الوليد العدني، وعبد الرزاق، ورواه جمعٌ من الحفاظ عن عاصم بن كليب ليس فيه هذه اللفظة المنكرة (أعني: وضع اليدين على الصدر) وقد وقع الشيخ في هذا أكثر من مرة، وانظر "صحيح أبي داود" 3/ 310 و 316، فركّب إسنادًا صحيحًا لمتن منكر!! وانظر في بحث المسألة كتابي "تنبيه ذوي الوطر بضعف وضع اليدين على الصدر".
والخطأ الثاني: أنه نسب لعالم من علماء الأمة مذهبا لم يقل به مطلقا، ولم ينسبه إليه أحٌد - فيما أعلم - بل قد نقل المروزي في "مسائله" (214)، وابن المنذر في "الأوسط" 3/ 94 أن إسحاق بن راهويه قال: تحت السرة أقوى في الحديث وأقرب إلى التواضع.
ونقل النووي في "شرح مسلم" 4/ 114 أن هذا هو مذهب إسحاق بن راهويه ثم إن سياق الكلام الذي نقل منه الألباني لا يعين على هذا الاستنباط، فسباقه متعلق برفع اليدين في القنوت، ولا شأن له بوضع اليدين في الصلاة، ففيه أن إسحاق بن راهويه كان يقنت الشهر كله ويرفع يديه في قنوته قريبا من صدره، فلا يفهم من هذا أنه كان يضعهما مباشرة بإلصاقهما على الثديين أو تحتهما، بدليل ما تقدّم أن مذهب إسحاق وضع اليدين تحت السرة في الصلاة.
وقد نقل ابن قدامة في "المغني" 2/ 113 أن مذهب الإمام أحمد رفع اليدين في القنوت إلى صدره، ثم قال: وبه قال إسحاق.
وأما وضع اليدين في الصلاة فقد نقله العلماء عن إسحاق صريحا لا لبس فيه كما تقدم آنفا، وقال ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 94:
"تحت السرة في الصلاة: به قال سفيان الثوري، وإسحاق، وقال إسحاق: تحت السرة أقوى في الحديث، وأقرب إلى التواضع.
وقال قائل: ليس في المكان الذي يضع عليه اليد خبر يثبت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن شاء وضعهما تحت السرة، وإن شاء فوقها".
وقال النووي في "شرح مسلم" 4/ 114:
"استحباب وضع اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام ويجعلهما تحت صدره فوق سرته هذا مذهبنا المشهور، وبه قال الجمهور، وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وأبو إسحاق المروزي من أصحابنا يجعلهما تحت سرته".

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام