words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(12) قالوا: إن شــرط الكفر هو الجحــود والاســتحلال القلبي




الجواب:
اعلم أن من الأعمال والأقوال ما هو كفر مجرد، وأن هذه الشبهة ليست بالشبهة الجديدة، بل هي قديمة ورثها هؤلاء المقلدة الجهال عن أشياخهم من أهل الزيغ والضلال أمثال جهم بن صفوان وبشر بن غياث المريسي وأضرابهم، سواء من طريق الوجادة، أم من وحي الشياطين، فمما ينسب إلى بشر المريسي من الأقوال الشنيعة، قوله: إن السجود للشمس والقمر ليس بكفر ولكنه علامة عليه.
فهي إذن عقيدة جهم وأتباعه.
ولذا قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في "المحلى" 11/ 411 - في معرض كلامه عن سب الله تعالى:
"وأما سب الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفرا، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى".
قلت: تأمل هذا ومطابقته لقول هؤلاء الدعاة الذين ذكرنا آنفًا: {أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 53].
قال:
"وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام، وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وإن أعلن الكفر" [[1]].
وقال 11/ 411-412:
"ثم يقال لهم إذ ليس شتم الله تعالى عندكم كفرًا، فمن أين لكم أنه دليل على الكفر؟
فإن قالوا: لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر.
قيل لهم: نعم محكوم عليه بنفس قوله لا بمغيب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط، فقوله هو الكفر...
وقد أخبر تعالى عن قوم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فكانوا بذلك كفارًا كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم وهم مع هذا كفار بالله تعالى قطعًا بيقين إذ أعلنوا كلمة الكفر".
وقال رحمه الله تعالى 11/ 411:
"ولم يختلفوا في أن فيه - أي: كتاب الله - التسمية بالكفر والحكم بالكفر قطعًا على من نطق بأقوال معروفة كقوله تعالى:
{لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 17]، وقوله تعالى: {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] فصح أن يكون الكفر كلامًا".
وقال في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" 4/ 156:
"وأما الأشعرية فقالوا: إنَّ شَتْمَ من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم، وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية [[2]]، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شيء من ذلك كفرًا، ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم، فقالوا: لكنه دليل على أن في قلبه كفرًا).
بل نقل في الموضع نفسه عن الأشعرية أنهم يقولون: إن إبليس لم يكفر بمعصية الله تعالى في ترك السجود لآدم ولا بقوله أنا خير منه، وإنما كفر بجحد لله تعالى كان في قلبه.
ثم قال: "وهذا خلاف للقرآن، وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به".
وقال 4/ 156:
"وقد تقصينا الرد على أهل هذه المقالة الملعونة في كتاب لنا اسمه كتاب (اليقين في النقض على الملحدين المحتجين عن إبليس اللعين وسائر الكافرين)".
وقال 3/ 114:
"وأما قولهم إنّ شتم الله تعالى ليس كفرًا وكذلك شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولكنه دليل على أن في قلبه كفرا - قال: فهو دعوى، لأن الله تعالى قال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74].
فنص تعالى على أن من الكلام ما هو كفر، وقال تعالى: {إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140].
فنص تعالى: أن من الكلام في آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع، وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} [التوبة: 65، 66].
فنص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مُخرج عن الإيمان ولم يقل تعالى في ذلك أني علمت أن في قلوبهم كفرا، بل جعلهم كفارا بنفس الاستهزاء، ومن ادعى غير هذا فقد قوّل الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى".
وقال أيضا 3/ 118 - في معرض رده على أهل الإرجاء -:
"فلو أن إنسانا قال: إن محمدا عليه الصلاة والسلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت، وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} [البقرة: 256]، لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر.
وكذلك لو قال: إن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون، لما اختلف أحد من أهل الإسلام في أن قائل هذا محكوم له بالكفر، وهو يريد أنهم مؤمنون بدين الكفر".
قلت: فصح أننا كفرناه بمجرد قوله وكلامه الكفري ولا دخل لنا بمغيب اعتقاده، وهكذا كل من أظهر قولاً أو عملاً كفريا كفرناه بمحض ذلك القول أو العمل إذ مغيب اعتقاده لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُومَرْ أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" [[3]] فالمدّعي خلاف هذا مدع علم الغيب، ومدّعي علم الغيب لا شك كاذب.
قال ابن حزم في "الفصل" 3/ 121:
"شهد الله تعالى ... بأن - أهل الكتاب - يعرفون الحق ويكتمونه ويعرفون أن الله تعالى حق، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك وما سماهم الله عز وجل قط كفارا إلا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم".
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ . وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 13 و 14].
قال ابن حزم 3/ 113:
"وهذا أيضا نص جلي لا يحتمل تأويلاً على أن الكفار جحدوا بألسنتهم الآيات التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واستيقنوا بقلوبهم أنها حق".
وقال رحمه الله 3/ 122:
"واحتج بعضهم في هذا المكان بقول الأخطل النصراني لعنه الله إذ يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما…جعل اللسان على الفؤاد دليلا [[4]] قال:
"فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول: ملعون، ملعون قائل هذا البيت، وملعون من جعل قول هذا النصراني حجة في دين الله عز وجل، وليس هذا من باب اللغة التي يحتج فيها بالعربي وإن كان كافرا، وإنما هي قضية عقلية، فالعقل والحس يكذبان هذا البيت وقضية شرعية، فالله عز وجل أصدق من النصراني اللعين إذ يقول عز وجل:
{يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} [آل عمران: 167]، فقد أخبر عز وجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس في فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله...
فأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب الأخطل، ولعن الله من يجعل الأخطل حجة في دينه، وحسبنا الله ونعم الوكيل".
وقال 3/ 122:
"وقد قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 25 - 28]، فجعلهم تعالى مرتدين كفارا بعد علمهم الحق، وبعد أن تبين لهم الهدى، بقولهم للكفار ما قالوا فقط، وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم، ولم يقل تعالى أنها جحد أو تصديق، بل قد صح أن في سرهم التصديق، لأن الهدى قد تبين لهم، ومن تبين له شيء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً".
وقال رحمه الله تعالى في "الدرة فيما يجب اعتقاده" (ص 462) - عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74] -:
"فصحّ بنصّ القرآن أن من قال كلمة الكفر، دون تقية، فقد كفر بعد إسلامه، فصح أن من اعتقد الإيمان وتلفظ بالكفر فهو عند الله تعالى كافر بنص القرآن".
وقال رحمه الله تعالى في "الفصل" 3/ 122-123:
"قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2].
فهذا نص جلي وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم دون جحد كان منهم أصلاً، ولو كان منهم جحد لشعروا به، والله تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون، فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفرا مبطلاً لإيمان فاعله جملة، ومنه ما لا يكون كفرا لكن على ما حكم الله تعالى به في كل ذلك ولا مزيد".
قلت: وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه.
وليس كما يقول الخوارج الضالون أن جميع الذنوب من أعمال الجسد كفر يناقض الإيمان.
ولا كما يقول مرجئة العصر الضالون أيضًا: من أن جميع الأعمال والذنوب لا يكفر فاعلها إلا باعتقاد، بل الحق أن من الأعمال المجردة ما ينقض ويهدم الإيمان كما بان لك وظهر، ومنها ما ينافي كمال الإيمان فقط فينقصه ويخدشه ولا ينقضه إلا باستحلال أو جحود، وهذا التفصيل ضيعه وأعرض عنه الخوارج بإفراطهم، والمرجئة بتفريطهم، وكلاهما طائفتان ضالتان، بل ينسب إلى إبراهيم النخعي قوله:
"لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة" [[5]].
وقوله: "الخوارج أعذر عندي من المرجئة" [[6]].
ويقول الأوزاعي: كان يحيى وقتادة يقولان:
"ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على هذه الأمة من الإرجاء" [[7]].
ولا شك أن الإرجاء كان ردة فعل على فتنة الخروج على ولاة الجور وما ترتب عليه من سجن وقتل وابتلاءات، إذ أول ما ظهر الإرجاء وانتشر بعد هزيمة عبد الرحمن بن الأشعث [[8]] ولكنها ردة فعل غير منضبطة بضوابط الشريعة، كحال مرجئة العصر في تخبطاتهم التي غالبها ردّة فعل على غلاة المكفرة في هذا الزمان، بل وعلى أهل الحق المكفرين لمن كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالدليل، تمامًا كمداهناتهم وركونهم للطغاة الحاكمين، فهي في الغالب ردة فعل لتنكيل هؤلاء الطغاة بأهل التوحيد وسجنهم وتعذيبهم، وطالب الحق لا تتحكم فيه ردود الفعل العكسية هذه، بل يضع نصب عينيه حديث المصطفى صلوات الله عليه في صفة الطائفة الظاهرة المنصورة:
"لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم".
فلا يتضرر أو ينحرف أو يتأثر بالمفرِطين ولا بالمفرِّطين، بل لا يزال قائمًا ثابتًا على المحجة البيضاء التي تركه عليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلقى الله تعالى.
وبعد أن سقنا لك أكثر كلام الإمام ابن حزم في هذه المسألة نعرّج على شيخ الإسلام ابن تيمية نستفتيه في هذه المسألة، وليس مرادنا من وراء ذلك إلا قطع حلوق ضلال مرجئة العصر الذين يتشدقون ببعض كلامه رحمه الله تعالى، إذ ليست الحجة كلام ابن حزم ولا كلام ابن تيمية ولا غيرهما بل الحجة كلام الله وكلام رسوله صلوات الله وسلامه عليه، ومن لم يكتفِ بكلام الله وكلام رسوله فلا نتعب أنفسنا معه، قال تعالى: {فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} [الجاثية: 6].
ورحم الله ابن القيم إذ يقول:
من لم يكن يشفيه ذان…فلا شفاه الله في قلب ولا أبدان
من لم يكن يكفيه ذان…فلا كفاه الله شر حوادث الأزمان
من لم يكن يغنيه ذان…رماه رب العرش بالإقلال والحرمان
إن الكلام مع الكبار وليس مع…تلك الأراذل سفلة الحيوان
قال رحمه الله تعالى في كتابه "الصارم المسلول" (ص 512):
"إن سَبَّ الله أو سب رسوله كفر ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل...
 إلى أن قال (ص 513): وكذلك قال أصحابنا وغيرهم: من سب الله كفر سواء كان مازحًا أو جادًا...
قال: وهذا هو الصواب المقطوع به .. وقال القاضي أبو يعلى في (المعتمد): من سبّ الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله، فإن قال لم أستحل ذلك لم يقبل منه...
وقال أيضًا (ص 515): ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب، زلة منكرة وهفوة عظيمة...وإنما وقع من وقع في هذه المهواة بما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب...".
وقال (ص 516):
"إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مستحلاً كفر وإلا فلا، ليس لها أصل وإنما نقلها القاضي من كتاب بعض المتكلمين" [[9]].
وقال ص (516):
"إن اعتقاد حلّ السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن" [[10]].
وقال أيضا (ص 517):
"إنه إذا كان المكفِّر هو اعتقاد الحل، فليس في السب ما يدل على أن الساب مستحل، فيجب أن لا يكفر لا سيما إذا قال أنا أعتقد أن هذا حرام [[11]] وإنما أقول غيظًا وسفهًا وعبثًا أو لعبًا كما قال المنافقون: {إنما كنا نخوض ونلعب} [التوبة: 65].
فإن قيل: لا يكونون كفارًا، فهو خلاف نص القرآن.
وإن قيل: يكونون كفارًا فهو تكفير بغير موجب إذا لم يجعل نفس السب مكفرًا.
وقول القائل: أنا لا أصدقه في هذا، لا يستقيم، فإن التكفير لا يكون بأمر محتمل، فإذا كان قد قال: (أنا أعتقد أن ذلك ذنب ومعصية وأنا أفعله)، فكيف يكفر إن لم يكن ذلك كفرًا؟
ولهذا قال سبحانه وتعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66]، ولم يقل: (قد كذبتم في قولكم: إنما كنا نخوض ونلعب) فلم يكذبهم في هذا العذر كما كذبهم في سائر ما أظهروا من العذر الذي يوجب براءتهم من الكفر لو كانوا صادقين.
بل بين أنهم كفروا بعد إيمانهم، بهذا الخوض واللعب، وإذا تبيّن أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر، استحلها صاحبها أو لم يستحلها، فالدليل على ذلك جميع ما قدمنا".
وقال رحمه الله تعالى كما في "مجموع الفتاوى" 7/ 220 - في تفسير قوله تعالى {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا} الآيات [النحل: 106] -:
"لو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره وذلك يكون بلا إكراه لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعا فقد شرح بها صدرا وهي كفر".
فالمعلن لكلمة الكفر لغير عذر شرعي كافر قد شرح بالكفر صدره، ولا يقال ننظر حتى نعرف ما في صدره أمعتقد هو أم مستحل أم لا؟ وكذا الساب لله ولرسوله ولدينه شارح بسبّه هذا صدره للكفر وإن لم يعلمنا هو بذلك، وكذا الساجد للصنم طائعا قد شرح بالكفر صدره بفعله هذا ولا يقال ننظر أمستحل أم غير مستحل، لأن هذه الأعمال أعمال مكفرة بذاتها، وكذا المشرّع مع الله أو المتبع والمبتغي غير الله حكما ومشرعا ومعبودا قد شرح بالكفر صدره بجعل نفسه طاغوتا معبودا في ذلك أو باتباعه للطاغوت والتزامه وتحاكمه لشرعه، ولا نقول ننظر أستحل التشريع مع الله واعتقده أم لم يعتقده، وكذا المستهزئ بشيء من دين الله كافر باستهزائه نفسه، شارح بالكفر صدره وإن لم يخبرنا هو بذلك، فنكفره بمجرد الاستهزاء ولا نتوقف حتى نسأله عن اعتقاده واستحلاله، بل لو صرّح بأنه غير معتقد ولا مستحل لكفرناه وقلنا له كما قال تعالى: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66].
فهو حكم بالكفر، وليس قيدا للكفر كما جعله مرجئة العصر، ولو اعتبر مثل هذا الأمر الغيبي الخفي قيدا للكفر في الأعمال المكفرة لأصبح دين الله ألعوبة بيد كل زنديق.
فما من كافر ولا مشرك إلا ويزعم أنه يضمر الإحسان والتوفيق والإيمان والرشاد [[12]].
والشارع الحكيم إنما أناط الأحكام الشرعية - ومنها التكفير - في الدنيا بعلل وأسباب ظاهرة ومنضبطة، ولم ينطها بأسباب خفية أو غيبية أو باطنية فهذا كله يتبع أحكام الآخرة.
ثم كُفْر التكذيب والجحود ما هو إلا نوع واحد من أنواع الكفر، وليس هو النوع الوحيد كما هو معلوم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" 7/ 557-558:
"فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرَّحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفًا بالله موحدًا له مؤمنًا به، فإذا أقيمت عليهم الحجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنا وظاهرا.
قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن...فيقال لهم...فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعا بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعا غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطنا وظاهرا، وأن من قال: أن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمنا بالله وإنما هو كافر بالظاهر. فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين، وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها...كقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73]، {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} [المائدة: 16] وأمثال ذلك".
وقال في "الصارم المسلول" (ص 524) عند آية سورة النحل:
"ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط، لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره، ولم يرد من قال واعتقد، لأنه استثنى المكره، وهو لا يكره على العقد والقول، وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا من المكرهين، فإنه كافر أيضا، فصار من تكلم بالكفر كافرا إلا من أكره، فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وقال تعالى في حق المستهزئين: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66]، فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع".
وقد نص رحمه الله تعالى في الصارم المسلول أيضا (ص 222) أن إيذاء النبي والدعاء عليه في حياته بالموت لو صدر من مسلم كان به مرتدا، وذكر (ص 453) أن قتل النبي من أكبر أنواع الكفر وإن زعم القاتل أنه لم يقتله مستحلاً، وذكر عن إسحاق بن راهويه أن هذا إجماع من المسلمين.
ويقول أيضا في الكتاب نفسه (ص 178):
"...وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفرٌ كفر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافرا، إذ لا يقصد أحد الكفر إلا ما شاء الله".
ويستثنى بالطبع من هذا الإطلاق - كما نقلنا لك من قبل من كلام ابن حزم - من أعلن الكفر أو نطق به تقية أو حكاية أو نحو ذلك مما استثناه الشارع، فإن نعق مرجئة العصر وقالوا: مهلاً ما هذا الاستثناء وما الذي جعل ناطق الكفر هنا يخرج عما قررتموه من قبل، من أن قائل الكفر وفاعله يكفر ولو لم يعتقد؟
قلنا: هو مستثنى في هذه المواضع بنص كلام الله تعالى، والله عز وجل هو الذي يسمي ويصف ما يشاء بما يشاء، فالذي أوقع مسمى الكفر على من وقع بأعمال أو نطق بأقوال مكفرة، هو سبحانه نفسه الذي استثنى هذه المواضع، وإليكم رد منجنيق الغرب ابن حزم على أشياخكم وأسلافكم من المرجئة الأوائل حول هذه الشبهة.
قال رحمه الله تعالى في "الفصل" 3/ 116-117:
"لقد قلنا أن التسمية ليست لنا وإنما هي لله تعالى، فلما أمرنا تعالى بتلاوة القرآن، وقد حكى لنا فيه قول أهل الكفر، وأخبرنا تعالى أنه لا يرضى لعباده الكفر، خرج القارئ للقرآن بذلك عن الكفر إلى رضى الله عز وجل والإيمان بحكايته ما نص الله تعالى بأداء الشهادة بالحق، فقال تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} [الزخرف: 86]، خرج الشاهد المخبر عن الكافر بكفره، عن أن يكون بذلك كافرا إلى رضى الله عز وجل والإيمان، ولما قال تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا} [النحل: 106]، أخرج من ثبت إكراهه عن أن يكون بإظهار الكفر كافرا إلى رخصة الله تعالى والثبات على الإيمان، وبقي من أظهر الكفر لا قارئا ولا شاهدا ولا حاكيا ولا مكرها على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر وبحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وبنص القرآن على من قال كلمة الكفر أنه كافر، وليس قول الله عز وجل: {ولكن من شرح بالكفر صدرا} [النحل: 106] على ما ظنوه من اعتقاد الكفر فقط، بل كلُّ من نطق بالكلام الذي يحكم لقائله عند أهل الإسلام بحكم الكفر لا قارئا ولا شاهدا ولا حاكيا ولا مكرها فقد شرح بالكفر صدرا بمعنى أنه شرح صدره لقبول الكفر المحرم على أهل الإسلام وعلى أهل الكفر أن يقولوه، وسواء اعتقده أو لم يعتقده...".
ولا بأس أن أورد هنا للمستزيد أقوالا منثورة أخرى لأئمة آخرين غير ابن حزم وابن تيمية حول هذا الموضوع:
* يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في "الصلاة وأحكام تاركها" (ص 55-56):
"وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية.
ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان.
وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارا وهي شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف".
ومنه تعرف أن (الكفر العملي) ليس كله أصغر عند أهل العلم، بل منه ما هو كفر مخرج عن الملة، خلافا لما يروجه مرجئة زماننا.
* ويقول ابن الوزير في كتابه "إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق" (ص 395-396):
"وقد بالغ الشيخ أبو هاشم وأصحابه وغيرهم فقالوا هذه الآية - يقصد {ولكن من شرح بالكفر صدرا} [النحل: 106] - تدل على أن من لم يعتقد الكفر ونطق بصريح الكفر وبسب الرسل أجمعين وبالبراءة منهم وبتكذيبهم من غير إكراه وهو يعلم أن ذلك كفر أنه لا يكفر، وهو ظاهر اختيار الزمخشري في (كشافه) فإنه فسر شرح الصدر بطيب النفس بالكفر وباعتقاده معا..وهذا كله ممنوع لأمرين:
أحدهما: معارضة قولهم بقوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] فقضى بكفر من قال ذلك بغير شرط فخرج المكره بالنص والإجماع وبقي غيره، فلو قال مكلف مختارا غير مكره بمقالة النصارى التي نص القرآن على أنها كفر ولم يعتقد صحة ما قال ولم يكفره مع أنه لعلمه بقبح قوله يجب أن يكون أعظم إثما من بعض الوجوه لقوله تعالى: {وهم يعلمون} [الزخرف: 86] فعكسوا وجعلوا الجاهل بذنبه كافرا والعالم الجاحد بلسانه مع علمه مسلما!
الأمر الثاني: أن حجتهم دائرة بين دلالتين ظنيتين قد اختلف فيهما في الفروع الظنية، إحداهما: قياس العامد على المكره والقطع على أن الإكراه وصف ملغى مثل كون القائل بالثلاثة [[13]] نصرانيا، وهذا نازل جدا، ومثله لا يقبل في الفروع الظنية.
وثانيهما: عموم المفهوم {ولكن من شرح بالكفر صدرا} [النحل: 106] فإنه لا حجة لهم في منطوقها قطعا وفاقا، وفي المفهوم خلاف مشهور هل هو حجة ظنية، مع الاتفاق على أنه هنا ليس بحجة قطعية، ثم في إثبات عموم له خلاف، وحجتهم هنا من عمومه أيضا وهو أضعف منه"ـ
* ويقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في "المغني" 9/ 29:
"تعلّم السحر وتعليمه حرام، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته"ـ
* وفي "مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر" 2/ 487-488:
"ومن كفر بلسانه طائعا وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان فهو كافرٌ ولا ينفعه ما في قلبه لأَنَّ الكافر يُعرَف بما ينطق به بالكفر، فإذا نطق بالكفر طائعا، كان كافرا".
وهو موافق لكلام شيخ الإسلام في آية الإكراه في سورة النحل.
* ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "كشف الشبهات" (ص 22) - بعد أن أنكر على الذين يقولون أن الكفر لا يكون إلا بتكذيب أو إنكار أو جحود -:
"فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب؟ (باب حكم المرتد) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفِّر، ويحل دم الرجل وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزاح واللعب.
ويقال أيضا: الذين قال الله فيهم: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} [التوبة: 74] أما سمعت الله كفَّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلّون معه ويزكون ويحجون ويوحدون؟ وكذلك الذين قال الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]، فهؤلاء الذين صرّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح"ـ.
وقال أيضا في كتاب الشبهات (ص 29):
"عليك بفهم آيتين من كتاب الله:
أولهما: ما تقدم من قوله: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 66]، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر، أو يعمل به خوفا من نقص مال، أو جاه، أو مداراة لأحد أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية: قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106]، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنا بالإيمان.
وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفا أو مداراة، أو مشحة بوطنه، أو أهله، أو عشيرته، أو ماله أو فعله على وجه المزح، أو لغير ذلك من الأغراض، إلا المكره، والآية تدل على هذا من جهتين:
الأولى: قوله: {إلا من أكره} [النحل: 106] فلم يستثن إلا المكره، ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على العمل أو الكلام، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
والثانية: قوله تعالى: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} [النحل: 107]، فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل، أو البغض للدين، أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا، فآثره على الدين".
* ويقول حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله في كتابه "التوضيح عن توحيد الخلاّق في جواب أهل العراق" (ص 42):
"المرتد شرعا: الذي يكفر بعد إسلامه نطقا أو اعتقادا أو فعلا".
وقال أيضا (ص 101):
"وكما يكون الكفر بالاعتقاد يكون أيضا بالقول، كسبّ الله أو رسوله أو دينه أو الاستهزاء به، قال تعالى: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 65، 66].
وبالفعل أيضا كإلقاء المصحف في القاذورات والسجود لغير الله ونحوهما، وهذان وإن وجدت فيهما العقيدة فالقول والفعل مغلبان عليهما لظهورهما".
وقال رحمه الله تعالى في "الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك" (ص 30):
"وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلا أنه يكفر".
* ويقول الشيخ حمد بن علي بن عتيق رحمه الله تعالى - ردا على من زعم أنه لا يكون كافرا من تكلم بالكفر إلا إذا اعتقده وشرح له صدره وطابت به نفسه -:
"قاتلك الله يا بهيم، إن كنت تزعم أنه لا يكفر إلا من شرح بالكفر صدرا فهل يقدر أحد أن يكره أحدا على تغيير العقيدة وأن يشرح صدره بالكفر - يشير إلى آية الإكراه في سورة النحل - وسوف نبين إن شاء الله أن الآية تدل على كفر من قال الكفر وفعله وإن كان يبغضه في الباطن ما لم يكن مكرها، وأما إذا انشرح صدره بالكفر وطابت نفسه به فذاك كافر مطلقا مكرها أو غير مكره" [[14]].
وقال أيضا (ص 59) في إبطال ذلك القول نفسه:
"وهذا معارضة لصريح المعقول وصحيح المنقول وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين، فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله: كفر، ولا يشترط في ذلك انشراح الصدر بالكفر ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وأما من شرح بالكفر صدرا، أي: فتحه ووسعه وطابت نفسه به ورضي فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولا فعله بجوارحه...".
* وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما في "الدرر السنية" جزء مختصرات الردود (ص 214):
"وأيضا فقد ذكر الفقهاء في حكم المرتد أن الرجل قد يكفر بقول أو عمل يعمله وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلي ويصوم ويتصدق فيكون مرتدا تحبط أعماله ما قال أو فعل، خصوصا إن مات على ذلك فيكون حبوط أعماله إجماعا".
* وقال القنائي في "حقيقة الإيمان" (ص 90):
"ثم هؤلاء قد قالوا - من غير دليل معتبر - أن المسلم مهما أتى من عمل من الأعمال لا يكفر بذلك طالما أن اعتقاده صحيح فيه، وطردوا ذلك المعنى في جميع الأعمال فلم يفرقوا بين أعمال الكفر وأعمال المعاصي، وجعلوا فساد الاعتقاد شرطا في كفر من عمل أي عمل من أعمال الجوارح أيا كان هذا العمل، والحق أن هذه المسألة لها تفصيل فإنه يجب أن نفرق بين الأعمال التي يكفر فاعلها، وبين أعمال المعصية عامة، فإن الإتيان بعمل من أعمال الكفر الصراح المخرج من الملة - في حالة ثبوت عدم وجود أي عوارض - يعني بالضرورة فساد الاعتقاد القلبي ولا شك، حتى دون أن يصرح بذلك، أو حتى دون أن يقصد إليه، وهذا مقتضى ما ظهر من اعتبار الشريعة للتلازم بين الظاهر والباطن".
وتذكر أن الفرق بين هذا وقول المرجئة، أنه هنا حكم، أما المرجئة فيجعلونه قيدا وشرطا للكفر.
وأنه ذكر هنا فساد الاعتقاد، والعلماء يدخلون في ذلك عمل القلب إضافة إلى التصديق، أما المرجئة فيقصرونه على فساد التصديق الذي هو الجحد أو التكذيب.
وهذا باب واسع جدا لو ذهبنا نتتبعه لطال بنا المقام ولضاقت به مثل هذه الأوراق، وهو أمر معروف مشهور في كتب أهل العلم ولا أظنه يخفى على المبتدئين، ولكنه التعصب والهوى الذي يعمي ويصم.
* فالأحناف على سبيل المثال - رغم أنهم يخالفون الجمهور في العمل، وفي دخوله في مسمى الإيمان - ومع هذا فإنهم يُكَفِّرون في أشياء كثيرة يقولها المرء بلسانه أو يفعلها بجوارحه، كأن يشد زنار النصارى على وسطه أو يهدي بيضة إلى المجوس يوم نيروزهم، أو يستعمل كلام الله بدل كلامه كمن يقول في ازدحام الناس: {فجمعناهم جمعا} [الكهف: 99] أو يتخاصم في مال فيقال له: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فيقول: وما أصنع بلا حول، (لا حول) لا تؤكل خبز، أو يقول: قصعة ثريد خير من طلب العلم.
أو قال: لبيك، جوابا على من قال: يا كافر أو يا نصراني، أو قال لولده: يا ولد المجوسي أو يا ولد اليهودي.
أو قال: النصارى خير من المسلمين، أو قال: سلطان زماننا عادل، فيسمي الجور المحرم عدلا، أو قال: لو دخل فلان الجنة ما دخلتها، وأمثاله كثير في كتبهم، فهم أكثر الناس خوضا في هذا الباب، وقد جمع كثيرًا من مقالاتهم هذه محمدُ بن إسماعيل الرشيد الحنفي في كتابه "البدر الرشيد في الألفاظ المكفرات" فراجعه إن شئت.
* ومثل ذلك كثير أيضا عند الشافعية، يقول تقي الدين أبو بكر بن محمد الحسيني الشافعي في كتابه "كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار" (ص 493) في تعريف الردة:
"- هي - الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام، ويحصل تارة بالقول وتارة بالفعل وتارة بالاعتقاد، وكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة فيه مسائل لا تكاد تحصر...
ثم عدد من الأقوال والأفعال المكفرة الشيء الكثير على نحو ما سقناه لك من كلام الأحناف .. ومن ذلك قوله (ص 495):
"ولو فعل فعلاً أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان مصرحا بالإسلام مع فعله، كالسجود للصليب أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها فإنه يكفر".
وابن حجر الهيتمي الشافعي قد صنف في المكفرات مصنفا خاصا سماه "الإعلام بقواطع الإسلام" ذكر فيه من هذا الباب الشيء الكثير من مذهب الشافعي وعدد مقالات الحنفية والمالكية والحنابلة.
* والمالكية كذلك فقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" جملة من الألفاظ المكفرة وصرح بنقل الإجماع عليها.
* وكذلك الحال بالنسبة للحنابلة فقد عددوا في أبواب حكم المرتد أقوالاً وأفعالا من صدرت عنه حكم بكفره، وراجع في ذلك "الإقناع" وشرحه في الكلام على نواقض الإسلام وحكم المرتد فقد ذكروا مما ينتقض به الإسلام أكثر من أربعمائة ناقض، كثير منها من هذا الباب.

٭ ٭ ٭

______________________ 

[1] - أي: ما دام الإيمان عندهم اعتقادًا بالقلب فقط ولا دخل للأعمال فيه، فإنه لا ينتقض عندهم إلا باعتقاد، ومرجئة زماننا وإن كان منهم من يخالف المرجئة الأوائل في مسمى الإيمان وتعريفه كتعريف فقط، إلا أنهم يوافقونهم على نهجهم هذا في تنزيل الأحكام، ويتبنون شبهاتهم ويتبعونها ويروجونها.
[2] - أي: النقل والإخبار على سبيل الحكاية، فإن ذلك مستثنى بلا خلاف.
[3] - متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري.
[4] - قال أبو البقاء الحنبلي في "شرح الكوكب المنير" 2/ 33:
"البيت موضوع على الأخطل، فليس هو في نسخ ديوانه، وإنما هو لابن ضمضم، ولفظه: إن البيان".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الإيمان" (ص: 113):
"فمن الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: إنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه، وهذا يروى عن محمد بن الخشاب، وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد".
[5] - "كتاب السنة" لعبد الله بن أحمد 1/ 313، و "الطبقات الكبرى" لابن سعد 6/ 274، و "الإبانة الكبرى" لابن بطة (1233).
الأزارقة: فرقة من فرق الخوارج، نسبة لنافع بن الأزرق.

[6] - "كتاب السنة" لعبد الله بن أحمد 1/ 337، فليهنأ مرجئة العصر وأشياخهم أنهم أضل من الخوارج، ذلك الوصف الذي طالما رموا به أهل الحق زورا وبهتانا.

[7] - "السنة" لعبد الله بن أحمد 1/ 345، و "الحلية" لأبي نعيم 3/ 67.
وقال الزهري:
"ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء". "الإبانة الكبرى" (1222) و (1247).

[8] - ذكر الذهبي عن قتادة، قال:
"إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة بن الأشعث". "سير أعلام النبلاء" 5/ 275.
وابن الأشعث هذا خرج على ولاة زمانه ومعه طائفة من أهل العلم ووقعت بينهم وبين الحجاج وقائع كثيرة انهزم في أكثرها الحجاج إلى أن جاءت وقعة الجماجم سنة 82 أو 83 هـ في العراق حيث كان الغلب والظفر للحجاج، وعلى أثر هذه الهزيمة ظهر الإرجاء.
[9] - وقد ذكر ابن تيمية في "الفتاوى" 7/ 403: أن بعض الفقهاء تخبطوا بين قول السلف وقول الجهمية في هذه المسألة بسبب أنهم أخذوا بحث هذه المسائل من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم في مسائل الإيمان، فتراهم تارة ينصرون قول الأئمة، وتارة يذكرون ما يناسب كلام جهم، وذكر أن القاضي عياض لما عرف هذا من قول أصحابه أنكره ونصر قول مالك وأهل السنة وأنه أحسن في ذلك.
[10] -  قلت: وهذا مطابق لرد تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى على من تأول قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} بأن فعله جحودًا، إذ قال في "مدارج السالكين" 1/ 345:
"وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر سواء حكم أو لم يحكم"ـ

[11] -  ومثله قول محمد بن إبراهيم آل الشيخ في "فتاويه" 6/ 189:
"لو قال من حكَّم القانون: أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له، بل هو عزل للشرع، كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل".
[12] - قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى 7/ 561:
"وأيضا فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نشهد أنك لرسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم أي: نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: فلم لا تتبعوني؟ قالوا: نخاف من يهود.
فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان، حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد".
وهذا من هذا، فمجرد الإخبار عن اعتقادهم الإيمان وإرادة الإحسان والرشاد وأنهم في صدورهم يعتقدون أن الشريعة أفضل من قوانينهم، ويعتقدون وجوب تحكيمها، كل هذا الذي يرقع لهم به مرجئة العصر لا يغني عنهم شيئا، ما داموا لا يلتزمون ذلك ولا ينقادون له، بل يضربون به عرض الحائط ويعطلونه، ويعملون قوانينهم ويقدمونها عليه ويشرعون مع الله ما لم يأذن به الله، ويحاربون أولياء الله الموحدين المتبرئين من تشريعاتهم ويوالون وينصرون ويكرمون أعداء الله الملتزمين المتبعين المناصرين لتشريعاتهم.
[13] - أي: القائل بالتثليث مكرها.
[14] - من رسالة "الدفاع عن أهل السنة والأتباع" (ص 48) من مجموعة رسائل حمد بن عتيق - نشر دار الهداية: الرياض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام