words' theme=''/>

ندعو إلى التمسك بالمنهج الصحيح المتكامل لفهم الإسلام الصحيح والعمل به، والدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، لنعود بك إلى الصدر الأول على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم من القرون الفاضلة إلى يوم الدين ...أبو سامي العبدان

الجمعة، 13 مارس 2020

(22) شبهة أن قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك...} الآية نفي لكمال الإيمان لا أصله




هذا وقد كنا استدللنا على كفر الطواغيت المشرعين بقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65]، وأن الله سبحانه وتعالى قد أقسم بأعظم مقسم به وأكد القسم بتكرار أداة النفي مرتين على نفي الإيمان والإسلام عمن لم يحكم شرع الله، فضلا عن أن يجد في نفسه حرجا ولو يسيرا من حكم الله تعالى [[1]].
ثم إن بعض مرجئة العصر أجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، وزعموا أن الإيمان المنفي في هذه الآية هو كمال الإيمان لا أصله، وجوابنا على هذا وبالله التوفيق من وجوه:
- أولهما: أن نذكر بادئ ذي بدء أن هذه الآية وبحمد الله تعالى ليست هي الدليل الوحيد على كفر هؤلاء الطواغيت المشرعين وأنصارهم وأعوانهم وعبيدهم، وإنما هي دليل واحد من معين نهر أدلة لا ينضب، تقدم شيء منها، وغيره مبسوطا في غير هذا الموضع، أولها وأعلاها نقضهم لأصل التوحيد وهدمهم لقاعدته بالتشريع مع الله (داخليا) أو باتخاذ غيره سبحانه حكما ومشرعا (دوليا)، وهذه مناقضة لكلمة الإخلاص وأصل الأصول الذي تدور أدلة الكتاب والسنة من أولها إلى آخرها حوله، وليست المسألة كما يتوهمها مرجئة العصر مسألة آية يؤولونها كما يشتهون وتنتهي القضية، ولكن غلبة الجهل وكثرة الشرك ومخالطة أهله وأنصاره ومجالستهم ومآكلتهم والركون إليهم طمست بصائر القوم وحجبت عن الهدى والحق المبين قلوبهم، وحالت بينهم وبين تمييز الكفر من الإيمان والتوحيد من الإشراك في مسائل هي من أوضح الأمور في دين الإسلام.
- ثم نقول: إن نفي الإيمان، أو الوعيد في أبوابه، لا يرد لأجل التقصير في كمال الإيمان [[2]]، بل لا يكون إلا على انتقاض أصله أو انتقاص الإيمان الواجب، ثم بعد يرجح أي الأمرين هو مراد الشارع، بالأدلة الشرعية أو القرائن من النص نفسه أو غيره من النصوص المبينة له.
إذا تقرر هذا فإن المعروف المقرر عند أهل العلم، أن الأصل في الألفاظ حقيقتها وظاهرها ولا يصرف اللفظ عن معناه الحقيقي الظاهر إلى المجاز إلا بدليل، بل قرر المحققون منهم أن لا مجاز في القرآن أصلا، فنحن نقول إن النفي ها هنا نفي لحقيقة الإيمان أي: لأصل الإيمان، والقائل بهذا مستصحب للأصل، والزاعم أن النفي لغير ذلك، خارج عن الأصل مطالب بالدليل، يقول ابن حزم رحمه الله تعالى في "الفصل" 3/ 293 عن هذه الآية:
"فهذا هو النص الذي لا يحتمل تأويلا ولا جاء نص يخرجه عن ظاهره أصلا، ولا جاء برهان بتخصيصه في بعض وجوه الإيمان".
- أضف إلى هذا أن اللفظ ها هنا ليس معنى لغويا بحتا، بل هو معنى شرعي خاص، وقد نص كثير من أهل العلم منهم شارح الطحاوية وشيخ الإسلام ابن تيمية على أن لفظة الإيمان مع الإسلام، إذا اجتمعا افترقا بالمعنى وإذا افترقا اجتمعا، ومعنى هذا أنه إذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وهاهنا ورد لفظ الإيمان منفردا فيشمل الإسلام معه، فنفيه في الآية نفي للإسلام والدين.
- ويدل على هذا أيضا سياق الآيات في السورة نفسها وقبل هذه الآية بقليل، فإنها نافية لأصل الإيمان، كقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر...الآية} [النساء: 59]، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى:
"فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر".
وذكر الإيمان باليوم الآخر في الآية يقطع شبهة القول بكمال الإيمان لأنه شعبة من شعب الإيمان الرئيسة التي يزول بزوالها أصل الإيمان ومنه قوله تعالى قبلها أيضا: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} [النساء: 60 - 61].
فإذا كانت إرادة التحاكم إلى الطاغوت، مناقضة للكفر به الذي افترضه الله على العباد وأمرهم به، فكيف بالتحاكم نفسه، بل كيف بما هو حاصل اليوم من جعل السلطة التشريعية كاملة وفي كل باب بيد الطاغوت وحقا من حقوقه، سواء كان هذا الطاغوت (دوليا) أم (محليا) أو كان (أميرا) أم (نائبا) أو كان (ميثاقا) أم (دستورا).
ومعلوم من أصل دين الإسلام أن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد وشرط صحة للإيمان بالله لا شرط كمال، والإيمان بالطاغوت كفر بالله ناقض لأصل الإيمان والتوحيد والإسلام، فالمكذب المنفي إذن في هذه الآية هو أصل الإيمان وحقيقته لا كماله الواجب، فضلا عن المستحب، وهكذا فسياق الآيات كلها قبل آية الباب هو حول انتفاء أصل الإيمان لا كماله، ثم جاءت هذه الآية نصا في الموضوع نفسه، وهذا كسابقه، فالقائل بهذا مستصحب لأصل الخطاب المتضمن في السياق، والمخرج لها عن ذلك خارج عن هذا الأصل مطالب بالدليل.
* أما الحرج المذكور في الآية فهو ليس قيدا لنفي حقيقة الإيمان هنا، أو قيدا في كفر من امتنع من التسليم لحكم الله، وإنما وجوده - كما تقدم - زيادة في الكفر، فالمتحرج من شرع الله كافر سواء حكمه أم لم يحكمه، والممتنع من التسليم لحكم الله كافر وإن لم يظهر التحرج منه، وقد يجتمع الكفران في شقي فيكون كفره كفرا مركبا، فهو إذن زيادة حكم لا قيد للحكم، يقول الجصاص في "أحكام القرآن" 3/ 181 - عن هذه الآية بعد أن ذكر بعض معاني الحرج ومنها الضيق أو الشك -:
"وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع عن أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم، لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان".
ويقول ابن حزم في "الفصل" 3/ 235 - عن الآية ذاتها -:
"فنص تعالى وأقسم بنفسه أنه لا يكون مؤمنا إلا بتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما عن، ثم يسلم بقلبه ولا يجد في نفسه حرجا مما قضى، فصح أن التحكيم شيء غير التسليم بالقلب، وأنه هو الإيمان الذي لا إيمان لمن لم يأت به".
والخلاصة يا أخا التوحيد: أن قضيتنا كما قلنا مرارا، مع أناس قد هدموا التوحيد فآمنوا بالطاغوت، ولم يكفروا به، وهذا ناقض من نواقض الإسلام والإيمان، وعمل كفري ظاهر لا يبحث فيه عن الاعتقاد أو الاستحلال القلبي أو التحرج القلبي، ولا يجعل ذلك قيدًا للكفر هاهنا، إذ هذه أمور مغيبة وأسباب للكفر غير ظاهرة ولا منضبطة في أحكام الدنيا، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهتين:
- إما عن طريق الوحي.
- أو أن يصرّح مقترف الذنب ويتلفظ بلسانه ويخبر عن استحلاله وتحرجه القلبي.
واعلم أن القوم هاهنا قد تحقق فيهم كلا هذين الوجهين فهم من أكفر الخلق.
- فقد نصّ الوحي كما تقدم في الآيات على تكذيب إيمان من لم يكفر بالطاغوت وأراد التحاكم إليه، فنحن نحكم ببطلان إيمان أمثال هؤلاء ظاهرًا وباطنًا أيضًا تصديقًا لله وإيمانًا بكلماته، (وهذا حكم وليس قيدًا للحكم) ونُكذب هذا المتحاكم للطاغوت ولو زعم الصدق والإيمان والتوفيق والإحسان، ولو صرّح بأن الشريعة أفضل من دين الطاغوت وقانونه، وأقر بوجوب تحكيم الشرع أو قال: ادعوا لنا، أو أعينونا، ونحوه مما يضحكون به على السفهاء، ويرقّع به لهم المرقّعون الضالون، ما دام مستمرًا في التحاكم
للطواغيت، داخلاً في دينها غير كافر بها، هذا من جهة.
- ومن الجهة الأخرى فإن هؤلاء الطغاة قد صرّحوا في مذكراتهم التفسيرية للدستور - كما بيّناه في "كشف النقاب" - ونصوا على تحرّجهم من توحيد الله وإفراده في التشريع، في تفسيرهم للمادة الثانية من ياسقهم، ومن هذا تعلم أن كفر القوم كفر مركب بشهادة الله ووحيه، وبتصريحهم هم أنفسهم أيضًا.
ومع هذا يتورع في تكفيرهم أفراخ المرجئة، فيعصمون دماءهم وأموالهم بل ويصلّون خلفهم [[3]] ويستعينون بهم على من خالفهم وخالف مذاهبهم الفاسدة وإن كان من أهل التوحيد [[4]]، ويصفونهم بالخوارج - الكفار على قول طائفة من السلف - لكفرهم بالطاغوت وتكفيرهم له ولأوليائه وأنصاره، فيتورعون من تكفير من رأيت حالهم، في الوقت الذي لا يتورعون ولا يلتزمون حدود الله فينا فيكفروننا بمحض التوحيد، تمامًا كما هو حال خصوم دعاة التوحيد في كل زمان، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وخصومنا قد كفرونا بالتي…هي غاية التوحيد والإيمان
ونحن نكلهم إلى رب العالمين يوم يتبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا، ويناديهم الجبار: {أين شركائي الذين كنتم تزعمون} [القصص: 74].
ويومها سنرفع شكايتنا إلى رب العالمين وسنقول: يا رب قد بدّعونا ورمونا وبهتونا بما علمت، لأننا كفَّرنا من هدم التوحيد ونصر الشرك والتنديد، يا رب ما كفَّرنا إلا من كفَّرته في كتابك وكفّره رسلك، يا رب كفَّرنا أعداء دينك، تصديقًا بكلامك واتباعًا لرسلك وإيمانًا بكتابك وانتصارًا لشريعتك.
أما أنتم يا أفراخ المرجئة فماذا ستقولون؟ وبماذا ستجيبون وتدفعون؟ أتقولون: يا رب تورعنا عن تكفير أعداء دينك الذين وصفتهم بالكفر في كتابك، وحكمنا لهم بالإسلام تورعًا واحتياطًا وتنزهًا، وبدعنا - وربما كفرنا - من كفّرهم وأنزل وصفك عليهم وسفهناه وحاربناه وصددنا الناس عن دعوته؟
فشمّر أخا التوحيد لنصرة دين الله، ولا تبال أو تتضرر بالمخالفين  والمخذّلين، وتجهّز ليوم المحاجة بين يدي جبار السموات والأرض لنحاجج أعداء الدين وأوليائهم وأنصارهم عند ولينا وناصرنا.


٭ ٭ ٭

_________________________________________________
[1] -  لأن {حرجا} جاءت نكرة في سياق النفي وهذه من صيغ العموم فتشمل جميع أنواع الحرج كثيره ويسيره فإنه كله مناف إما لأصل الإيمان أو للإيمان الواجب إذ لا ينفي
الله الإيمان عمن قصر في كمال الإيمان المستحب، وقد كنا أوردنا في "كشف النقاب": (تحرجهم البالغ والصريح من جعل الشريعة الإسلامية هي الحكم المشرع الوحيد في نظام حكمهم) كما نصوا على ذلك في مذكرتهم التفسيرية للمادة الثانية من الدستور الكويتي وهذا معناه الحرفي (الحرج البالغ من توحيد الله وإفراده بالعبادة في باب التشريع) أي: (الحرج البالغ من عبادة الله وحده والكفر بالطاغوت) أو (الحرج البالغ من لا إله إلا الله) فتأمل هذا الكفر البواح، واعلم أنه ليس وقفا على الطاغوت المشرع له وحده، بل ويشمل كل من أيده أو طالب بتحكيمه أو مدحه أو نصره أو أحبه أو قال: لا أتبرأ منه أو وصفه بالعدالة، مهما طالت لحيته ومهما كان انتماؤه.
[2] - وانظر "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" 7/ 15.
[3] - كما فعل أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكويتية، التراثية (من أدعياء السلفية) في بعض زياراتهم للطاغوت فيومها أمهم الطاغوت وصلوا وراءه، ولا عجب من هذا، فطالما قرأنا لجماعتهم وسمعنا من جمعيتهم (جمعية إحياء التراث) مدح الحكومة والمطالبة بتحكيم الدستور وعودة البرلمان الوثني، فأي هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه، التي يقر أتباعها أعظم منكر في البلاد (شرك الدستور) ويطمسون أعظم معروف (التوحيد)؟
[4] -  لعلي الحلبي فتوى يوجب بها تبليغ سلاطين الكفر عمن يصفهم بالتكفيريين أوردناها في هامش كتابنا "كشف شبهات المجادلين عن عساكر الشرك وأنصار القوانين"
 لا يفزعون إلى الدليل وإنما…في العجز مفزعهم إلى السلطان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حقوق النشر لكل مسلم يريد نشر الخير إتفاقية الإستخدام | Privacy-Policy| سياسة الخصوصية

أبو سامي العبدان حسن التمام